إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الموت، ودفن الموتى









المصادر والمراجع

المبحث الأول

الموت عند القدماء

أولاً: الموت عند قدماء المصريين

اهتم المصريون، اهتماماً خاصاً، بالموت مع كراهيتهم له؛ وتعلقوا بالأمل في البعث بعد الموت، فقد كتبوا عنه: "الموت أمر بغيض يجلب الدموع والأحزان، ويخطف الرجل من بيته ويلقي به على كثيب رملي في الصحراء. لن نعود إلى الأرض أو نرى الشمس" وإذا كانت أعظم أمنية لكل مصري، هي أن يحظى بدفن كريم، فإنه يود أن يأتيه الموت بعد عمر طويل، يبلغ 110 سنوات من العمر.

أعطى المصريون السيادة باستمرار للآلهة التي اعتقدوا أنها تساعد الموتى، ومن هذه الآلهة: أنوبيس Anubis، وسوكاريس Sokaris، وخنتمانتيس Khentamenthes، وأوب وات Wepwawet، وأوزوريس[1]. وقد اتخذ أنوبيس شكل ابن آوى، أو الكلب، وارتبط بعملية تحنيط الموتى، أما أوزوريس فكان في الأصل إله الموتى، وكان مركز مدينته الأول فيما يبدو، هو مدينة أبيدوس. أما الدافع وراء اتحاد الملك الميت بأوزريس، فقد كان واضحاً، وهو ضمان استمرار سيادة الملك بعد الموت، فعندما يصبح فرعون الميت هو أوزوريس، فإن ذلك يعني أنه سوف يحكم مملكة الموتى.

وكان هناك عدد قليل من الآلهة اتخذ صورة بشرية خالصة، منها: الإله "مين"، والإله "بتاح" في منف، والإله آتوم في هليوبوليس، والإلة "آمون" في طيبة، وكذلك أوزوريس.

كان المصريون القدماء يعتقدون أن الموت للصالحين يعني التوحد مع "أوزوريس"، وهو الأمل الرئيسي في الخلود، وهذا التوحد ميزة يحصل عليها كل من مارس الطقوس الدينية المناسبة، ويُعبر عن هذا التوحد بتصوير المتوفي، في بعض الأحيان، وهو يحمل صفات من أوزوريس.

لم يكن لدى قدماء المصريين إله يمثل الموت، ومع ذلك فقد كانوا يخاطبونه دائما على أنه لص بغيض: "كنت طفلاً صغيراً عندما خطفت بالعنف، اختصرت سنوات حياتي وأنا وسط زملائي في اللعب... انتُزعت فجأة في شبابي، كرجل يروح في سبات عميق، كنت شاباً عندما جرفني الموت إلى المدينة الأبدية، أمام سيد الآلهة دون أن أحظى بوقتي، على الأرض، لي كثير من الأصدقاء ولكن لم يستطع أي واحد منهم أن يدافع عني، أقام كل شخص في المدينة مأتماً وعويلاً عندما رأى ما يحدث لي، بكى كل أصحابي، تضرع أبي وأمي وأُغشى على إخوتي... ولكن كل هذا دون جدوى".

لم يهمل المصري الاحتياطات اللازمة استعداداً للموت، وأعدَّ قبراً يعيش فيه حياته بعد الموت، وفي الوقت ذاته كان يتمتع بلذاته على الأرض "اتبع قلبك الملذات التي ترغب فيها، اصنع ما شئت على الأرض، ولا تخالف قلبك، سيأتيك يوم الحداد، ولن يعيد البكاء أي إنسان من العالم الآخر، اقض يوماً بهيجاً في غير ملل، واعلم أن المرء لن يستطيع أن يأخذ معه ممتلكاته، ولم يسبق قط أن رجع أي إنسان بعد أن ذهب إلى هناك".

لقد تصور المصريون القدماء الموت على أنه انفصال العنصر الجسماني عن الروح. وأن الإنسان يموت، وكذلك الآلهة، مثل الإنسان، ولكن الأفكار الغريبة التي تتعلق بالآلهة أنهم يموتون، ولكنهم في الوقت نفسه، ما زالوا بمعنى آخر أحياء يمارسون قدراتهم وصلاحياتهم، وفي بعض الحالات كان الموت يعدُّ إبادة كاملة. وعندما يذبح فرعون أعداءه، فإن لهم الفناء الأبدي، وهذا قدر مكتوب عليهم، وكأنهم لم يوجدوا أبداً. وكان المصريون القدماء يخشون هذا المصير. أما الموت العادي فقد يكون مجرد انتقال من حياة إلى حياة أخرى. ولا تكون الحياة الثانية بالضرورة مشابهة تماماً للحياة على وجه الأرض، فلا يلزم أن يكون الإنسان واقفاً على قدميه. ولكنها حياة مقاربة للأصل كما يسمح الخيال بذلك. وعندئذ يعبرون عنه تعبيراً لطيفاً، فيسمونه "الرحيل". وهذا واضح في العبارة "ذهب إلى هناك"، أي إنه مات.

1. الطقوس الجنائزية عند قدماء المصريين

تدل الأعداد الهائلة للقبور، والزخارف والنصوص الجنائزية، التي غصت بها على أن قدماء المصريين كرسوا جهداً، واهتماماً هائلاً بالحياة بعد الموت، أكثر من أي شعب آخر في العصور القديمة. وما أكده المصريون وآمنوا به، هو أن الحياة بعد الموت حياة حقيقية، هي حياة الجسد داخل القبر، ولا خوف بعدها إلا من الموت مرة ثانية، إذ يكون عندئذ موتا نهائياً. وعلى هذا كان مصير الجثة المدفونة في أيدي الأحياء الذين وحدهم يستطيعون المحافظة على القدر اليسير من الحياة الباقية لها.

وهكذا تظهر أهمية الطقوس الجنائزية، التي تشمل الاحتفالات بعد الجنازة، وإعادة تزويد الميت بانتظام بالطعام والشراب، إذ دونها لا يستطيع أن يعيش. وتبين قبور ما قبل التاريخ أن الميت كان يأخذ معه، تحت الأرض، مخزنا مملوءاً بالأطعمة. وكان من واجب ورثة الميت، ولا سيما الابن الأكبر، أن يجدد تلك المؤن.

وكان هذا يسبب عبئاً مادياً يزداد مع تعاقب الأجيال.

2. العادات الجنائزية

تتكون الجنازة، في ديانة طِيبة مثلاً، من أربع مراحل. أولها المناحة في بيت الميت، حول سرير الموت، الذي تؤدي النائحات المحترفات فيه دوراً مهماً، وهن يلطمن رؤوسهن وصدورهن، ويحثين التراب فوق أجسامهن، وينادين السماء كي تشهد على حزنهن. ثم موكب حمل الميت وأمتعته إلى النيل.

ثم عبور النهر، والتابوت الخشبي الذي بداخله المومياء، في قارب. وإبان عبور النهر تقف امرأتان على جانبي القارب، تمثلان إيزيس ونفتيس، تنتحبان طوال فترة العبور.

وتحيط بقارب الميت عدة قوارب أخرى تحمل أفراد الأسرة وهم يولولون، كما تحمل أصدقاءهم وأمتعة الميت. ويجتمع الموكب من جديد على الضفة الغربية، ويوضع التابوت فوق زحافة تجرها الأبقار. فيجتمع المشيعون في جماعات حول التابوت يتبادلون التعازي مع أصدقائهم. ويسير الموكب في طريقه المترب بطيئاً حتى يصل إلى الجبانة، ويطلق الكهنة البخور على التابوت، وهم يرتلون الأناشيد الطقسية. وعند بلوغ القبر، يتوقف المعزون، وتبدأ المرحلة الأخيرة. فيقوم الكهنة أولاً بالطقوس، كفتح الفم، وبعدها تركع أرملة الميت أمام التابوت، وتمسكه بذراعيها، كما لو كانت تحاول استبقاء الميت في الدنيا، وتقول كلمة الوداع. بعد ذلك ينزلون التابوت إلى موضعه في القبر ومعه متعلقات الميت. ثم يُقفل السرداب ويشترك الجمع المحتشد في وليمة جنائزية.

أما في المدن الواقعة على الضفة التي فيها الجبانة، فلا حاجة إلى استعمال القوارب. أمَّا بقية الطقوس فهي نفسها، كما سبق.

فيما يلي وصف جنازة رجل غني، تُدفن معه كل ممتلكاته المنقولة، في أحد القبور المزينة بالمناظر، والتي لا تزال تثير إعجاب السائحين عند القرنة.

يتوجه الموكب الجنائزى، عندئذ نحو مدخل المقبرة. وكانت النواويس الجنائزية الكبيرة، المصنوعة من الخشب المسود، والمزينة بالأشكال الصغيرة، وشرائط من الكتابات المذهبة، ذات القاعدة التي تشبه الزلاجة، ويجرها بعض الأبقار ذات الجلد المرقط، والتي يزعمون أنها تشارك أيضاً في الأنين والنواح:

"نحو الغرب، نحو الغرب!

أيا سيدنا، نحو الغرب!

هو الذي كان يعطينا العلف، كما يطيب لقلبه،

هو الذي كان لا يلتفت إلى أخطائنا!".

أما الندَّابات اللاتي تستخدمهن ربة البيت، فكنَّ ينشدن:

"في سلام، في سلام نحو الغرب، أيها المحبوب المبجل!

حزن! وأسى!

فلتنتحبن دون توقف!

آه، يا لها من خسارة!

لقد مضى الراعي الطيب نحو مقر الأبدية.

أنت يا من كنت محاطا بالعديد من الناس،

هاأنت تجد نفسك في مكان ليس فيه إلا الوحدة.

هذا الذي كان يحب تحريك قدميه للسير،

ها هو عاجز، وقعيد،

الذي كان يرفل في الملابس يرقد، ولم يعد يلبس سوى ثوب السهر.

كانت الندابات يسرن أمام الموكب، يتوقفن كثيراً لِيُهِلْنَ بعض التراب على رؤوسهن، ومثل الرجال كن يشبكن أيديهن كعلامة على الحداد. وكانت نساء الأسرة يسرن معاً متجمعات، أما جميع الرجال، ومنهم الأهل والأصدقاء، ومعاونو المتوفَى ومساعدوه فكانوا يُكوِّنون معا موكباً ضخماً، يحمل كل واحد منهم، فوق رأسه أو كتفيه، بعض قطع الأثاث الجنائزي. وكان الموكب يبدو وكأنه من أجل زواج فعلى بالإلهة "حتحور"؛ فقد كان يحتوي على: السرير بحاشيته السميكة، والوسائد والمخدات، والصناديق والجرار والصناديق الصغيرة المزخرفة من أغلى الحلي، والمقعد الفاخر والعلب المحتوية على المرايا، وأوعية الدهانات المعطرة، والنعال المصنوعة من الجلد الأبيض.

وأمام مدخل المقصورة، التي يعلوها هرم صغير، وضعت المومياء المغطاة بالتابوت البشري الداخلي، ذي الألوان الصارخة، وصورة المتوفَى، حيث تعانقها الأرملة لآخر مرة، وبناتها يصاحبنها وينوحن، وهي تقول:

"التفت، قم، استيقظ،

افتح عينيك واسمع صوتي!

أريد أن أرقد هنا!

أريد أن أكون المحفة التي حملتك

إنني زوجتك

فيا زوجي، لا تتركني.

وتقول كل بنت من بنات الميت:

في الوقت نفسه الذي كنت فيه على خير حال،

يا والدي، أمن العدل أن أبعد عنك؟

لماذا تركت عالمنا هذا؟

إنني أسير وحيدة خلفك، بدلا من أن أكون جوارك.

وأنت الذي كنت تحب أن تتسلى في صحبة الناس،

تمكث دون نطق، ولا تتكلم أبداً.

أمّا الابن الأكبر فقد حلق لحيته، وارتدى جلد الفهد الخاص بالكاهن "ستم stem"، وأخذ يستعد لتنفيذ "اللمسات السحرية" لفتح فم وعيني المومياء لاستعادتها لحواسها. مستخدماً العديد من الآلات الصغيرة، وبعض العناصر المختلفة الموضوعة على مقعد خشبى صغير بجواره.

ثم يدخل الجثمان إلى القبو الجنائزي في أعماق البئر المحفورة في الصخور الجيرية، والجثمان بداخل تابوت على قدر إنسان، داخل عدة توابيت الواحد داخل الآخر، عليها صورته، ووضعت داخل الحوض الخشبي، الذي فكك لكي يمكن إنزاله، عن طريق البئر، ثم أعيد تركيبه بعد ذلك. وكان الأثاث بأكمله يحيط بالمتوفَى، وكذلك أوانيه الكانوبية المحتوية على أمعائه وأحشائه. وحرص أصدقاء المتوفى على أن يتركوا عصيهم الكبيرة كرسالة من أجل الميت، لحماية مصيره، وفوق إحدى العصي نُقشت هذه الأمنية:

"إليَّ، يا عصاي!

لأتوكأ عليك،

عندما يتوجه قلبى إلى مكان الحقيقة،

حيث بلغت من العمر أرذله.

3. المأدبة الجنائزية

تبين المشاهد والزخارف على جدران المقصورة كل ما كان يتم في هذه المأدبة؛ فقد كان على الأحياء أن يشتركوا في هذه المآدب مع الجزء الذي لا يُمس الخاص بالميت: وكانت الموسيقى والرقص المناسبان يصاحبان هذه الطقوس، لكي يتوجه المتوفَى نحو ذراعي "حتحور" المرحبة، الخفية، التي تستقبله في أحضانها لكي يولد في حياته الجديدة.

أما الأرملة التي تعد صورة لحتحور، فقد حرصت على أن تضع، ضمن مجموعة الأشياء الثمينة والأثاث والمجوهرات المحيطة بزوجها، تمثالاً صغيراً من الفخار المطلي الخشن عليه صورة لإلهة الموت والحب، في هيئة امرأة عارية ذات شعر كثيف طويل، فوق مخدع، وبجوارها شكل وليد صغير فوق الفراش، ممثلا لظهور الميت وقد نقل إلى عالمه الجديد بفضل أعماله ، ورضاء الإلهة عنه. (وفي العصور السابقة لهذه الحقبة، وفي القبور الأقل ترفاً وفخامة، كان يُكتفى بوضع تمثال صغير لامرأة عارية، غالبا مكسورة الساقين وفقا للشعائر، أو يُكتفى بمجرد مثلث مصنع من الطين المحروق، موحيا إلى "العنصر الأنثوي".

ولذا، فلكي تتم عملية "التحويل"، بمصاحبة هذه الأفعال، كان على الأرملة أن توجه العبارات الآتية للمتوفى:

"خذ لتشرب،

حتى تمضي يوماً سعيدا

في بيتك الأبدي،

من يد زوجتك

فى صحتك، أنت المكرم المبجل،

(ها هو) رداء أبيض،

ودهان معطر من أجل كتفيك،

وأكاليل من الزهور لعنقك،

(املأ أنفك) بالصحة والسعادة.

(وفوق رأسك) ضع العطور

الآتية من (آمون رع)

فى بيتك الأبدي.

وبعد انتهاء الوليمة الجنائزية، التي يشارك فيها الرجال والنساء كل على حدة، تكسر الكؤوس الحمراء التي استعملت، وفقا للطقوس، ويتم جمع عقود الورد الطبيعي التي كان يلبسها المشاركون المتجمعون، ويدفن كل ذلك بأحد المخابئ، بجوار المقبرة. وكانت الأرملة تعرف أنها، ذات يوم، سوف تلحق بزوجها في هذا "المسكن الأبدي" الذي عملا معا، خلال حياتهما، على إعداده بكل عناية واهتمام.

ثانياً: الموت عند الزرادشتية

1. تعريف الزرادشتية

هم أصحاب "زرادشت" أو "زور أستر" Zoroaster ابن "ابيورشت"، الحكيم الذي توفى في سنة 487 ق.م، وهو الذي تولى ضبط وإصلاح تعاليم الديانة المجوسية، ويلقبه الزرادشتيون بـ"المرسل الإلهي"، الذي أرسل لـ"يخلص الناس" من الشرور، وينعتونه بـ"بالحي المبارك" وبـ" المولود البكر"، وبـ "الواحد الأبدي".

وقالوا عنه: إنه لما ولد، ظهر نور أضاء الغرفة التي ولد فيها، وإنه كان يضحك، حين ولادته، ويعرفونه بالنور البارز من شجرة المعرفة.

ومبنى عقائد هذا المذهب اعتبار النور والظلمة أصلين متضادين وهما "أورمزاد" أو "بزدان" و "أهرمن". وقد ذهب جمهور الزرادشتيين إلى أنهما متماثلان في الأزلية، والقوة، فالمصلون مثلاً يطلبون الخير من "أورمزاد" ويطلبون الشر للأعداء من "أهرمن". وكانوا لشدة بغضهم إياه يضعون اسمه مقلوباً، ويقولون إن الموجودات كلها بدأت منهما، ومن امتزاجهما حصلت التراكيب، ومن التراكيب وجدت الصور المختلفة.

2. الموت ودفن الموتى عند الزرادشتين

يقول الزرادشتيون إن تاريخ العالم هو تاريخ الصراع بين (خالق الخير) وبين الشيطان (أصل الشر)؛ وفي بداية الخلق اخترق الشيطان استحكامات السماء، وهاجم الإنسان الأول، والحيوان الأول، وأصابهما بالمرض والموت، فالشيطان لا يقدر إلا على التدمير؛ ولذلك فإن الموت من عمل الشيطان، ومن أجل ذلك يعتقد الزرادشتيون أن الجنة مستقر الشياطين، وكلما كان الميت صالحاً ازدادت قوى العمل الشيطاني، ولما كان إحراق الجثة أو دفنها يدنس العناصر المادية، فلا بد أن تعرض الجثث فوق "أبراج الصمت" لتلتهمها الطيور الجارحة؛ ولذلك يبني الزرادشتيون مقابرهم على ترتيب موافق لاعتقادهم، فيضعون أجسام الموتى على سطح برج عال مستدير، وهذا السطح مبلط، وفي وسطه بئر عميقة. وعندما يموت أحدهم، يضعون جثته عريانة مكشوفة للشمس على الألواح الحجرية المكونة من ثلاثة صفوف. الصف الخارجي منها للرجال، والمتوسط للنساء، والداخلي للأطفال.

وتبقى الجثث تحت حرارة الشمس، ومياه الأمطار إلى أن تأكلها الجوارح من الطير، ولا يبقى إلا العظام، فيطرحونها حينئذ في تلك البئر، وفي عقائدهم أن نور الشمس وحرارتها يطهران هذه الأجسام من دنس الخطيئة، فتدخل النعيم مطهرة مقدسة.

ثالثاً: الموت عند اليونان والرومان

اليونان هم الأساتذة الأولون للرومان، وعنهم أخذوا كل شيء من العقائد والطقوس والآداب.

كان اليونان والرومان يعتقدون أن هناك شخصاً يسمى "شارون" أو "قارون"، موكل بأرواح الموتى، يحملها ويعبر بها نهر الموت، ولا يفعل ذلك ما لم يتناول أجراً معيناً. فكانوا يضعون في فم الميت قطعة من النقود يعطيها إلى الموكل المذكور. وإذا ساروا به يحملون أمام نعشه تمثاله وتماثيل أسلافه، وعند نهاية الاحتفال بالجنازة وتشييعها إلى مرقدها الأخير، يرش الكهنة جميع الحاضرين بالماء ويصرفونهم.

وكانوا كثيراً ما يحرقون موتاهم، ولم تنقطع هذه العادة إلا بعد شيوع النصرانية فعدلوا عن الحرق إلى الدفن.

أما طريقة حرق الأموات فإنهم يطرحونهم فوق حطب جزل، مرتب على صورة مذبح، ثم يلتفون حوله بخشوع ووقار، ويسمعون النغمات الموسيقية المحزنة، ثم يتقدم أحد الأقارب يحمل شعلة فيضرم بها ذلك الحطب، ثم يلقى الحاضرون ما يحملونه للميت من الأطايب في ذلك اللهب. وبعد احتراق الجثة يطفئون النار، ثم يجمعون الرماد، ويجعلونه في آنية نفيسة يلقونها في مدفن العائلة. وإذا كان الميت من الجنود فإنهم يحرقون معه آلات حربه، والغنائم التي سلبها من الأعداء.

رابعاً: الموت في الشعر الجاهلي

أخذ الموت مكاناً مميزاً بين القضايا الكبرى التي تحدث عنها الحكماء وتأملها الشعراء.

وقد تناول شعراء الجاهلية الموت من عدة جوانب، فتحدثوا عن حتميته، وعن تفاوت الآجال، وعن كراهية الإنسان للموت. وهم في كل ذلك يصورون الموت طالباً والإنسان مطلوباً، أو صائداً يلقي شباكه على الناس، فيصيب منهم ما يريد. لأن سهمه لا يخطئ وقصده لا يخيب. ويجب الاتعاظ به؛ قال قس بن ساعدة:

في الذاهبين الأولين                                  من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً                                     للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها                                 يمضي الأصاغر والأكابر

أيقنت أني لا محالة                                  حيث صار القوم صائر

ويقول امرؤ القيس:

تلك المنايا فما يبقين من أحد                          يكفتن حمقى وما يبقين أكياساً

ويقول طرفة بن العبد:

من كان في سفر فالموت صاحبه                     أو كان في حضر فالموت يأتيه

وإن مضى خمسة فالموت سادسهم                    وإن مضى واحد فالموت ثانيه

ويقول بشر بن أبي خازن:

وكل نفس امرئ وإن سلمت                          يوم ستحسو لميتة جرعا

ويقول أمية بن أبي الصلت:

فكل معمر لا بد يوماً                                 وذي دنيا يصير إلى زوال

ويفنى بعد جدته ويبلى                                سوى الباقي المقدس ذي الجلال

ومن وحي البيئة الجاهلية التي كثر فيها القتل، حرباً أو غارة أو غيلة أو ثأراً، إلى حد يشبه الفوضى، أتى تشبيه زهير بن أبي سلمى للمنايا بالناقة العشواء، التي تخبط على غير هدى، وتضرب دون حكمة أو نظام، فمن أصابته هلك ومن أخطأته نجا، وذلك في قوله:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب                  تُمته ومن تُخطئ يُعمِّر فيهرم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه                         وإن يرق أسباب السماء بسلم.

ويقول عبيد بن الأبرص:

وللمرء أيام تعد وقد رعت                            حبال المنايا للفتى كل مرصد

منيته تجري لوقت وقصره                           ملاقاتها يوماً على غير موعد

فمن لم يمت في اليوم لا بد أنه                        سيعلقه حبل المنية من غد

فقل للذي يبغي خلاف الذي                           مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

ويقول عنترة: بن شداد:

يخوض الشيخ في بحر المنايا                         ويرجع سالماً والبحر طام

ويأتي الموت طفلاً في مهود                          ويلقى حتفه قبل الفطام

ويقول:

يا عبل أين من المنية مهربي                         إن كان ربي في السماء قضاها

والواقع أن الحياة الجاهلية كانت تفتقد الإيمان القوي واليقين الثابت بالآخرة، باستثناء ومضات خافتة كانت تضيء قلوب المتحنفين المتمسكين ببقايا دين إبراهيم، عليه السلام، ولم يكن عددهم كبيراً بين العرب.

ولقد اتخذ شعراء الجاهلية من الموت ذريعة للإفراط في التمتع بما أتيح لهم من ملذات الحياة، التي تمثلت في استمتاعهم بالخمر والنساء، وإشباع جانب حب البطولة والفخر بها عن طريق الحروب.

واقترنت أفكارهم عن الموت، ودلائل إنكارهم للبعث، بحديثهم عن هذه المتع، التي أرادوا انتهابها، قبل أن تفوتهم فرصة الحياة. ولعل أوضح مثال على ذلك ما جاء في معلقة طرفة بن العبد إذ يقول:

ألا أيُّهذا اللائمي أحضُر الوغى                       وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي                        فدعني أبادرها بما ملكت يدي

ولولا ثلاث هُنَّ من عيشة الفتى                       وَجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي

فمنهن سَبقُ العاذلات بشربة                          كُميت متى ما تُعْلَ بالماء تُزبدِ

وكَرِّي إذا نادى المضاف مُحَنَّباً                       كسيد الغضا نَبَّهته المتورد

ذريني أروي هامتي في حياتها                       مخافة شرب في الحياة مصرد

كريم يُروي نفسه في حياته                           ستعلم إن متنا غداً أينا الصدي؟

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى                      لكالطول المرخى وثنياه باليد

متى ما يشأ يوماً يقده لحتفه                           ومن يك في حبل المنية ينقد

أرى قبر نَحَّام بخيل عليهما                           صفائحُ صُم من صفيح منضد

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي                   عقيلة مال الفاحش المتشدد

أرى الموت يعتاد النفوس ولا أرى                   بعيداً غداً. ما أقرب اليوم من غد

أرى الدهر كنزاً ناقصاً كل ليلة                       وما تنقص الأيام والدهر ينفد

 



[1] كان أوزوريس إله الموت عند المصريين جميعاً. لكن كان لكل مدينة إله محلي لرعاية جبانتها، وكثيراً ما يتخذ شكل ابن آوى: الحيوان الذي يجوب المناطق الصحراوية ليلاً، حيث تقع المقابر، كما اتخذ أيضاً شكل الكلب والذئب.