إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / المجال العام









المجال العام

المجال العام

Public Sphere

حظى مفهوم "المجال العام" باهتمام واسع على النطاق العالمي، خلال حقبة التسعينيات من القرن العشرين، وذلك بعد نشر الترجمة الانجليزية لكتاب هبرماس بعنوان "التحول البنائي للمجال العام"، عام 1989، والذي نُشر لأول مرة عام 1962. ولقد تساوق الانتشار العالمي لمفهوم المجال العام وفهمه، على أنه الإرادة الاتصالية في الممارسة السياسية الديموقراطية. وقد تزامن هذا الانتشار وذلك الفهم، مع فتح آفاق جديدة لنشر قيم الديموقراطية في المجتمعات، التي تعيش في أوروبا الشرقية، وفي شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

وقد ارتبطت فكرة انبعاث المجال العام، بإعادة إحياء فكرة وثيقة الصلة بها، وهي فكرة المجتمع المدني. ومن ثم اتضح أن المجال العام يُفهم على أنه البنية التحتية والمعيار الكامن، للآداء الوظيفي الفعال للمجتمع المدني.

اتسم المجال العام بأنه ذا طابع سياسي، يؤكد على قيمة التواصل الشفاف وممارسة الفهم الاتصالي بين الفاعلين، بدءً من المستوى الأصغر للحياة الاجتماعية، إلى المجالات الجمعية الأكثر تنظيماً، التي يتم فيها التباحث والنقاش. بمعنى أن المجال العام يركز على الرابطة الاتصالية، الرمزية ذات الطابع الاجتماعي، وهي الرابطة التي تسمح بظهور أبنية أكبر للتداول والنقاش الحر، وهي التي تشكل المجال العام، كأرضية مستقلة في المجتمع. ومن ثم، فهو يمثل مجالاً ثالثاً، بجانب السياسة والاقتصاد.

ولكن أرماندو سالفاتوري، في كتابه ذائع الصيت عن المجال العام بعنوان: "الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام"، يرى أن المجال العام هو المجال الذي يشهد تشكل القيم الثقافية، مثل قيم الالتزام والتسامح والارتباط.

وترجع أصول هذا المفهوم إلى تيار الفكر الأنجلو أمريكي ومفرداته، وإسهامات المدرسة الألمانية والأوروبية. وهي إسهامات تأسست على تراث فلسفي ثري. ولتلخيص ذلك، فإن المجال العام، كمجال ثالث في المجتمع، يعمل على إيجاد درجة عالية من التكامل الاتصالي في المجتمع.

تمتد جذور مفهوم المجال العام، من الناحية الدلالية واللغوية، إلى العدل القانوني وإلى النظرية السياسية اليونانية والرومانية؛ لذا، فإن مفهوم المجال العام يكشف عن جذور تاريخية تتسم بالتعقيد والتنوع. وتعتمد فكرة المجال العام في جوهرها، على الفعل والمناقشة والتفاوض المشترك، بطرق مشروعة في عملية البحث عن المصلحة المشتركة، والتي تتضمن أيضاً درجة معقولة من شفافية الاتصال بين الفاعلين المنخرطين في العملية الاتصالية. ومن ثم، فهو مفهوم متشابك ومركب يتقاطع مع تشكل التراث القانوني، والتراث المدني، والتراث الديني، كما يتقاطع مع ظهور الأفكار الحديثة للقوة العلمانية، وتكريس هذه الأفكار. من هنا عَرَّف هيرماس المجال العام على أنه يشكل النمط المثالي، الذي يتأسس على الجدل بين الداخل والخارج، أو بين الخصوصية والعلنية.

كشف النقد، الذي وُجه إلى تصور هيرماس، للمجال العام عن أوجه القصور التالية:

1. عدم الالتفات إلى صور المجالات العامة، التي تقوم على الطبقة أو النوع.

2. التقليل من شأن الفروق القومية والتاريخية، بين النماذج المختلفة للمجالات العامة الحديثة.

3. عدم الاهتمام بالتداخل بين المجالات العامة المحلية والقومية وغير القومية.

4. عدم الاقتصار على توصيف المجال العام على أنه تصور متفرد، في الحضارة الغربية الحديثة فقط.

وبناءً على ذلك، فإن مفهوم المجال العام يقوم على الفعل التواصلي أو الاتصالي، لبناء ما هو عام ومشترك؛ بناءً على فكرة الصالح العام، أو الخير المشترك Common good.

أدت محاولات إعادة تعريف العلاقة الثلاثية المحورية بين الذات والآخر والله ــ والتي يحكمها الإيمان، من ناحية، والعقل العملي، من ناحية أخرى، إلى تغيير فكرة التفكير العام بجعل الإيمان والدين غير منظورين في الحياة العامة، وتحويلهما إلى أشكال من التنظيم للرابطة الاجتماعية، في شكل ثقة وأخلاق لتحقيق التماسك الاجتماعي؛ لأنها تتوافق مع المطلب الجديد للفعل الفردي والاستقلالي. وعلى ذلك، فإن محاولات إصلاح مفهوم الإيمان، وإعادة صياغته في شكل من أشكال الفكر العلماني، تبين أنها مهمة لتحديث فكرة المجال العام، من خلال دمج الفعل الذاتي التواصلي لكي يتلاءم مع مطالب الجماعات الاجتماعية الناشئة والفاعلين الاجتماعيين، في العصر الحديث. ومن ثم إرساء وبلورة شعور جديد لمفهوم المجال العام، على أنه مجال ينفصل وظيفياً عما هو خاص، ومن ثم يُشكل المجال العام الجديد.

اكتسب المجال الخاص شكلاً جديداً في بناء وتفسير الرابطة الاجتماعية، وأخلاقيات الحياة الاجتماعية، بشكل عام. أما المجال العام، الذي أُعيد بناؤه فقد احتفظ بالوظيفة المهمة المتعلقة بالخير أو الصالح العام، من خلال أي رابطة اجتماعية تظهر في الأخلاقيات، التي تستخدم في المواقف العامة. وبهذا التعريف يُعد المجال العام، جنباً إلى جنب، مع قوة تماسكه الأخلاقية، منشأ تكوينات بنائية وليست تكوينات جدلية تنبثق بشكل مباشر من المجال الخاص. ومن ثم يُفهم المجال العام في الوقت الحالي على أنه ميدان اتصالي يخلو من الصراعات، ويقع في مسافة بين العلاقات الموجودة في المجال الخاص، والتي تُبنى على المصلحة (العقد) والعاطفة (الحب والصداقة)، وما ينتج عنهما من توليفات (كالزواج والأسرة والعلاقات الأبوية) من ناحية، والقوى المعيارية للدولة الحديثة، التي تُفعِّل احتكارها للقسر لكي تضمن وجود النظام العام البازغ وما يرتبط به من آليات للتبادل العام، من ناحية أخرى.

وعلى كلٍّ، فإن المجال العام يؤدي وظيفة أساسية في تسهيل التفاوض العقلاني، حول الصالح العام أو الخير العام بين المواطنين في حياتهم الخاصة.

وعلى هذا، فإن المجال العام يتيح للفرد التعبير الحر عن آرائه، دون ضغط أو إجبار من جانب المجتمع، حيث يتم فيه مناقشة قضايا المجتمع ومشكلاته المختلفة، من أجل الوصول إلى مجتمع أكثر حرية وعقلانية. ومن ناحية أخرى، يؤكد هذا المفهوم على أهمية النقاش الحر، سواء في وسائل الإعلام أو غيرها، كوسيلة لتكوين رأي عام Public Opinion حر، وكذلك مناقشة القضايا والمشاكل المجتمعية الملحة، التي تحتاج إلى رأي عام مستنير وديموقراطي.