إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام الجليل)





مراحل وتطور أعمال القتال
الهجوم على لبنان
المعالم الرئيسية للعاصمة
الحجم والأوضاع الابتدائية للجانبين
تحديد مواقع بطاريات الصواريخ
بطاريات أرض/جو




المبحث الثاني

المبحث الثاني

الخطوات الأخيرة، وتخطيط الحرب

أولاً: خلفية الأزمة

في عام 1979، أعلن عيزرا وايزمان Ezar Weizman ، وزير الدفاع الإسرائيلي، آنذاك، سياسة جديدة لإسرائيل في لبنان، أسماها "الهجوم الوقائي". فباتت إسرائيل لا تنتظر عملاً فلسطينياً، تبرر به هجماتها، بل أصبحت الحكـومة الإسرائيلية تؤكد حقها في شن الغارات، وقتما تشاء. وفي بداية عام 1981، قدمت الحكومة الإسرائيلية إحصاءات، من شأنها تأكيد أن سياسة "الهجوم الوقائي" قد نجحت. واستناداً إلى هذه الإحصائيات، فإن 7, 7% فقط من جميع "الحوادث الإرهابية" في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، كان مصدرها لبنان، بينما انطلق 92% من هذه الحوادث، طبقاً للبيانات الإسرائيلية، من الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومع حلول ربيع 1981، كانت لهجة المسؤولين الإسرائيليين أكثر شراسة من قبل. فلقد أعلن يعقوب إيفن، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي: "نحن الآن في طور الهجوم، إننا نتغلغل داخل الحدود المزعومة لدولة لبنان، ونطاردهم (أي الفلسطينيين) في كل مكان يختبئون فيه".

وكان النقاش في ما يختص بالتحركات العسكرية الكبرى في لبنان، مدار بحث علني في الصحافة الإسرائيلية. كما كانت المناظرة في شأن رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية المحتمل تجاه عملية الاجتياح، محل النقاش. ويقول زئيف شيف، المحلل العسكري لصحيفة هاآرتس: "كان للتدخل الإسرائيلي في لبنان هدفان: ليس إلحاق الضرر بالقوات السورية فحسب، بل القضاء على بنْية المنظمة التحتية في لبنان، خصوصاً في جميع المناطق الواقعة جنوبي بيروت. إن نجاح مثل هذه العملية قد يسدد ضربة قاتلة لمنظمة التحرير. وفوق هذا وذاك، فمن المرجح أن تتفهم إدارة ريجان سياسة إسرائيل في هذا المضمار. إن واشنطن تسعى إلى ردع أي حليف للسوفيت، فلماذا تعترض، إذاً، على إلحاق الضـرر بأكثر حلفاء موسكو أهمية، أي سورية والمنظمة؟". ويستطرد زئيف شيف قائلاً: "إن إدارة الرئيس ريجان لن تعترض على أي ضرر يلحق بدمشق والمنظمة. ولكنها ليست مهتمة، في الوقت الحاضر، بالتركيز على حرب، ليست مستعدة لها على الإطلاق. إن الأمريكيين لم يعززوا مكانتهم حتى الآن بما فيه الكفاية، للرد على مثل هذا التحدي، خصوصاً إذا قرر السوفيت، مثلاً، أن يمنحوا دمشق مساعدات هائلة، في حالة نشوب حرب. إن اندلاع الحرب من شـأنه أن يعرقل خطوات أمريكا نحو إنشاء حلف معادٍ للسوفيت في المنطقة. لذا، فمن الخطأ الاعتقاد أن إدارة ريجان، ستساند مثل هذه الخطوة الإسرائيلية في الوقت الحاضر".

ومن الواضح أن هناك تغيراً قد حدث في السياسة الأمريكية، بعد تولّي ألكسندر هيج الخارجية الأمريكية. ففي خلال زيارته إلى القدس، في أبريل عام 1981، وبعد اجتماعه مع رئيس الوزراء، بيجن، قال هيج للصحفيين: "إن الاجتماعيْن، اللذيْن عقدهما مع بيجن، أسفرا عن تطابق في وجهتي نظـر الجانبين، بالنسـبة إلى الخطر السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط. وإن هذا يشمل التهديدات العسكرية التقليدية، الصادرة عن دول عظـمى غير صديقة. ويشمل تقويم الأعمال التي يقوم بها الوكلاء، وعدداً من القضايا المهمة في شأن موضوع الإرهاب الدولي عامة".

كما أعلن بيجن، في خطابه أمام الكنيست، عقب زيارة هيج إلى إسرائيل، أن هناك نقاط وفاق عديدة بين حكومة إسرائيل والإدارة الأمريكية، تتمثل في الآتي:

1. الدولتان حليفتان، وهناك آراء متفقة بينهما على الموقف تجاه المنظمات الإرهابية. وإن هناك معارضة شديدة لهذه المنظمات الدموية.

2. موقفهما المتطابق من الدور السوري في لبنان، وأنّ سورية لم تعد قوة ردع لتثبيت السلام، ولا هي جيش يجلب الاستقرار[1].

3. معارضتهما لتوسيع السوفيت نشاطهم في أجزاء عديدة من العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط.

ويبدو أن نقاط الاتفاق هذه، كانت ضوءاً أخضر للعمليات الإسرائيلية في لبنان. فقد كتب ديفيد شيبلر، مراسل صحيفة نيويورك تايمز، في القدس، ما يلي: "يبدو أن التغيير الأساسي في موقف الولايات المتحدة الأمريكية من العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان، قد منح مرونة جديدة لجيش إسرائيل في الهجمات على مواقع الفدائيين الفلسطينيين في الأراضي اللبنانية".

تلك هي العلاقة بين أمريكا وإسرائيل حيال الأزمة اللبنانية، والتي سادت في الأسابيع التي سبقت القصف الإسرائيلي الكثيف لبيروت، في يوليه 1981. و كان رد الفعل الأمريكي، في جوهره، مسانداً تماماً لإسرائيل، في وجه موجة الغضب التي عمت الأوساط الدولية. كما أسهمت واشنطن في صياغة قرار وقف إطلاق النار، الذي ظل صامداً أحد عشر شهراً، حتى الاجتياح. كما فرضت حظراً مؤقتاً على بعض الشحنات العسكرية. ولم يبدُ قط أن حكومة بيجن انزعجت من هذا القرار، بل إن أحد المسؤولين الإسرائيليين. بادر إلى القول: "نحن نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تبيعنا الطائرات للاستعمال في عرض عيد الاستقلال فقط. إنها تبيعها إلينا بسبب المصالح الإسـتراتيجية المشتركة بين بلدينا. وفي اعتقادي، أن الطائرات سيتم تسليمها". في حين لم تنزعج حكومة إسرائيل قط للتأخر المؤقت في تسليم الطائرات الأمريكية. ولكنها كانت ساخطة على صفقة طائرات "الأواكس" للمملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها حكومة إسرائيل وأنصارها، من أجل إحباط هذه الصفقة، إلاّ أن الكونجرس صادق عليها. وأصبحت إسرائيل في غاية القلق، بسبب تطور العلاقات العسكرية الأمريكية بعدد من الأنظمة العربيـة، لأن هذه الدول أصبحت، طبقاً للزعم الإسرائيلي، أكثر قوة، من الناحية العسكرية، نتيجة لهذه الترتيبات.

وبذلت الإدارة الأمريكية جهوداً حثيثة، لكن بلا جدوى، لطمأنة حكومة بيجن، وأنصارها في أمريكا، بالتنسيق مع اللجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشؤون العامة. فزعمت أن "الأواكس"، لن تعزز موقف السعودية العسكري تجاه إسرائيل. وكان ينبغي لإسرائيل أن تجد في ذلك مصدراً للاطمئنان، غير أن بيجن لم يجد فيه أي اطمئنان، لأن مشروع الإدارة الأمريكية، كان يقتضي جهوداً واسعة النطاق، على مستوى "اللوبي"، بذلها السعوديون والشركات الأمريكية الكبرى، التي لها مصالح في هذه الصفقة، بما فيها تلك الشركات التي لها مصالح تجـارية في الشرق الأوسط، أو في صناعة الأسلحة. وعلى هذا، بقيت إسرائيل حليفاً قلقاً، تنتابه نوبات طارئة من جنـون الارتياب، خوفاً من أن تلجأ إدارة ريجان، في سعيها لكسب ود حلفائها العرب، إلى الضغط على إسرائيل، كي تعتدل في صراعها مع العرب.

ولعل هذا الخوف هو أحد الأسباب، التي حدت بالمسؤولين الإسرائيليين على تركيز الاهتمام الجدي في تهيئة الرأي العام الأمريكي للاجتياح القادم. ففي فبراير 1982، أبلغ السفير الإسرائيلي الجديد لدى الولايات المتحدة الأمريكية، موشي أرينز Moshe Arens ، الصحافة بأن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، هو "مجرد مسألة وقت". وكانت الحجة التي تذرع بها، أن إسرائيل قد أصبحت "في مرمى مدافع المنظمة" من الشمال، وأنها تواجه احتمال فقدان "تفوّقها النوعي"العسكري"، لأن الولايات المتحدة تمدّ بعض الأنظمة العربية بأسلحة متطورة. ولذا، فقد تضطر إسرائيل إلى اللجوء إلى عمل عسكري وقائي.

كما أمدّ رئيس الاستخبارات العسكرية في إسرائيل، يهو شواعي ساغي، الصحافة الإسرائيلية بقدر وافرٍ من المعلومات، التي يراد بها الإعلان أن منظمة التحرير الفلسطينية، تتلقى إمدادات كبيرة وجديدة من الأسلحة السوفيتية. وعلى الرغم من أن الخارجية الأمريكية تلقت هذه المزاعم بحذر، وقللت من شأنها، إلاّ أن وزير الخارجية، هيج، أعارها أذناً صاغية، بل صرّح بأن الولايات المتحدة الأمريكية، تملك تقارير تفيد أن القوات الفلسطينية في الجنوب اللبناني، تتلقى صواريخ ومدفعية سوفيتية. وهذا تطور قد يعرض للخطر جهود الولايات المتحدة الأمريكية، الرامية إلى منع اندلاع قتال جديد في تلك المنطقة المضطربة. وأوضح هيج أن الولايات المتحدة الأمريكية، تنظر باهتمام إلى "شحنات الأسلحة" هذه، وترى أنها تمثل "خطراً محتملاً" على وقف إطلاق النار.

وخلال ربيع 1982، نشرت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية العديد من التقارير الصريحة، التي أكدت احتمال حدوث اجتياح إسرائيلي كبير للبنان. وبينما كان احتمال شن إسرائيل عدواناً كبيراً، يلقى تغطية صحفية واسعة، في داخل إسرائيل وخارجها، لم يصدر عن الصحف الأمريكية، مثل "نيويورك تايمز" و"الواشنطن بوست" و"لوس أنجلوس تايمز"، أي احتجاج على هذا الاجتيـاح، الذي قُرعت له الطـبول. ولا نجد أي نداء لكي تعمل واشنطن على منـعه. بل كان هناك غياب بارز لأي تقارير صحفية في ما يتعلق بالحقيقة، العسكرية والسياسية، لأهداف هذا الاجتياح المحتملة. وقد نشرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، في شـهر فبراير 1982، ست فقرات، تصف شعور الناس في مدينة صور تجاه الاجتياح المرتقب، وكان ذلك الخبر فريداً من نوعه.

وجاءت زيارة الجنرال شارون (اُنظر ملحق البرقية الرقم 208، في 18 مايو 1982، والمرسلة من رئيس البعثة اللبنانية بالأمم المتحدة، إلى وزير الخارجية اللبناني في شأن زيارة شارون إلى واشنطن) إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في نوفمبر 1981، قبل الهجوم بفترة، من أجل تبرير نوايا إسرائيل وأهدافها، بعد الاجتياح. وقد حرص على الاجتماع بالصحفيين، وأكّد أن الاجتياح القادم، عمل مشروع للدفاع عن النفس، إزاء الخطر الأحمر في الشمال. وخص شارون مراسلي صحيفة "وول ستريت جورنال" ورؤساء تحريرها، بلقاء صحفي، استمر ساعتين ونصف الساعة، استخدم خلاله الخرائط والبيانات الإيضاحية، لشرح أوجُه الخطر السوفيتي. وأوضح أن "الإرهاب الفلسطيني، كان ولا يزال من أهم الوسائل، التي يستخدمها السوفييت لخلق الظروف الملائمة لتوسيع نفوذهم في الشرق الأوسط".

وقد أثمرت جهود شارون. إذ صدر مقال افتتاحي في صحيفة "وول ستريت جورنال"، قبل الاجتياح بثلاثة أيام، كاد يبلغ حد تشجيع إسرائيل علناً على القيام بالاجتياح. فبعد أن أعلمت الصحيفة قراءها، أن "للحلف القائم بين سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، شريكاً أكبر، وهو الاتحاد السوفيتي"، مضى المقال يقول: "إن المسألة الأكثر إلحـاحاً في الشرق الأوسط الآن، هي الطريقة التي ينبغي أن يُعالج بها الموقف السوفيتي ـ السوري ـ الفلسطيني، المركز فـي لبنان، والخطر الذي يمثله بالنسبة إلى السلام. وفي السعي إلى حل هذه المعضـلة، من الملائـم أن يستمع صانعو السياسة الأمريكية والأوروبية، باهتمام أكبر، إلى آراء الإسرائيليين، الذين لهم بعض الخبرة بموضوع البقاء على قيد الحياة في الشرق الأوسط".

ثانياً: الخطوات الأخيرة قُبَيْل الاجتياح

وخلال الأشهر التي سبقت الاجتياح، كانت إدارة الرئيس الأمريكي ريجان، تعي تماماً الاندفاع الإسرائيلي نحو الهجوم. ولا يمكن تفسير حصيلة الأعمال التي قامت بها الإدارة، خلال تلك الفترة، إلاّ وصفها بأنها منحت إسرائيل موافقة إستراتيجية على الهجوم، بينما عمدت، من وقت إلى آخر، إلى كبح جماحها تكتيكياً.

ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية، رفضت اتخاذ أي إجراء لكبح جماح إسرائيل. ففي فبراير 1982، وحين بدا كأن العملية العسكرية الكبرى توشك أن تبدأ، قدمت هيئة رؤساء الأركان المشتركة Joint Chiefs of Staff ، خطة طارئة إلى فريق طوارئ خاص بلبنان، يرأسه نائب وزير الخارجية، وولتر ستوسِلْ. وقد رفضت الخطة أن يكون لإسرائيل اهتمام "دفاعي مشروع"، يمتد إلى الأراضي اللبنانية، كما توقعت أن يؤدي العمل العسكري الإسرائيلي في لبنان إلى التعرض لسورية، مما قد يُشعل حرباً شاملة، تؤدي إلى خطوات معادية لأمريكا، تتخذها دول عربية غاضبة.

وقد اقترحت تلك الخطة الطارئة تقديم مبادرة أمريكية ـ سوفيتية مشتركة تجاه لبنان. والأمر الأكثر غرابة، هو أن الخطة توحي بأن الولايات المتحدة الأمريكية، قـد تتورط في قتال جوي إلى جانب إسرائيل، في أثناء محاولتها تأمين غطاء جوي فوق لبنان "في جو معادٍ"، كجزء من محاولة لإجلاء الرعايا الأمريكيين عن ساحة القتال. والشيء المثير للاهتمام في هذه الخطة، هو أنها "رُفضت رفضاً قاطعاً". وقد أعلن بعض المسؤولين الأمريكيين ـ الخائفين من نتائج الاجتياح ـ لمجلة "ميدل إيست بوليسي سيرفي"، أن الخطة رفضت كلياً.

واتخذت الولايات المتحدة الأمريكية عدة خطوات، للتخفيف من الضرر، الذي قد يلحقه الاجتياح الإسرائيلي الوشيك بعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية بالدول العربية. كما سربت الإدارة إلى الصحافة بعض التقارير، التي تفيد أنها هددت، سراً، بالانتقام في حال حدوث اجتياح، وذلك من طريق تقليص تدفق المساعدات إلى إسرائيل. كما أنها سـربت أخباراً مفادها، أن الإدارة طلبت أن تبلَّغ مسبقاً بموعد الاجتياح.

وخلال شهرَي فبراير ومارس، بدا كأنه قد برز تعارض داخل الحكومة الإسرائيلية، بين القوى المؤيدة لشارون، الذي كان يرغب في شن الهجوم العسكري الكبير على لبنان، قبل الموعد المحدد لانسحاب إسرائيل من الأجزاء الباقية من سيناء، في 25 أبريل 1982، وبين الذين كانوا، على ما يبدو، أكثر حذراً، مثل بيجن. وكان دافع شارون إلى شن الهجوم قبل 25 أبريل، هو إعاقة الانسحاب من سيناء. وكان من شأن مثل هذا الاجتياح، أن يشكل ضغطاً لا يُحتمل على مصر، للرد بصورة معادية، وهذا ما كان يأمله المسؤولون الإسرائيليون، وتخشاه الإدارة الأمريكية، فيعطي إسرائيل الذريعة للبقاء في سيناء. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، بذلت الجهود من أجل تأجيل الاجتياح إلى ما بعد 25 أبريل، كي تحافظ على مصالحها، في ضمان استمرار تنفيذ المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية.

وفي الأسابيع التي سبقت زيارة الجنرال شارون إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كانت الدلائل على الاستعدادات الإسرائيلية للهجوم، قد أصبحت أكثر وضوحاً وإثارة للقلق من أي وقت مضى. ففي 10 مايو 1982، أقرت الحكومة الإسرائيلية، رسمياً، العمل العسكري المنفرد في لبنان، وليس الانتقام فقط. وقد أوردت صحافة إسرائيل هذا النبأ. واعترف رئيس الأركان رفائيل إيتان، وللمرة الأولى، بأن الجيش الإسرائيلي قد وضع في حالة تأهب، وأن الجنود قد حشدواً على طول الحدود الشمالية. وكانت ملاحظاته، التي وردت في حديث صحافي، تنم على أن القتال أصبح وشيكاً. فقد استطرد قائلاً: "بما أنني قد صرفت مليارات من الدولارات لإنشاء نظام فريد في نوعه، فإنني قادر، بل مرغم على استخدامه".

وبعد أن أُحيطت الحكومة الأمريكية علماً بِنِية إسرائيل اجتياح لبنان، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية، سلسلة من الإجراءات، خلال وجود شارون في واشنطن، كان من شأنها أن تطمئنه إلى أن تدفّق العتاد سيزداد أكثر مما مضى. وقبل أن تحط طائرة شارون في واشنطن، أبلغت إدارة الرئيس ريجان الكونجرس الأمريكي، بصورة غير رسمية، أنها تنوي بيع إسرائيل 75 طائرة إضافية، من نوع "F-16" وفي الوقت نفسه، تقريباً، صوتت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على جعل شروط المساعدة لإسرائيل، أكثر ملاءمة، حتى من تلك التي افترضتها الإدارة. ففي تعديل اقترحه السيناتور آلان كرانستون، زادت لجنة العلاقات الخارجية المساعدة الاقتصادية المقترحة بـ 125 مليون دولار، حتى أصبحت توازي مدفوعات إسرائيل المبرمجة لديونها للولايات المتحدة الأمريكية، والبالغة 910 ملايين دولار عام 1983. وقال السيناتور تشارلز بيرسي، معلقاً علي ذلك: "إنه من أغرب الاقتراحات، التي سمعتها في حياتي، إنه نقطة تحوُّل تاريخية ، فللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكـية، يجَعل هذا الاقتراح المجتمع الأمريكي مسؤولاً عن ديون إسرائيل كافة، وعن ديونها أيضاً في المستقبل".

وفي هذه الأجواء، ألقى وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، خطاباً، في 20 مايو 1982، أمام مجلس العلاقات الدولية الأمريكية، في شيكاغو (Chicago)، قال فيه: "إن تدهور الأوضاع في لبنان، خلال العام الماضي، تطلب جهوداً غير عادية، لتجنب الحرب. وفي أبريل 1981، نجح المبعوث الخاص، فيليب حبيب، في قمع المواجهة العسكرية في لبنان. ولكن، لا يمكن السيطرة على النزاع سيطرة دائمة، ما دامت المشكلات، التي هي في أساسه، مستمرة ولا يمكن العالم أن يقف جانباً، ليشاهد هذه الدولة الصغيرة، تتدهور أكثر فأكثر، إلى هاوية العنف والفوضى. لقد حان الوقت للنهوض بعمل منسق، يدعم سيادة لبنان على أراضيه، داخل حدوده المعترف بها دولياً، ويدعم حكومة مركزية قوية، قادرة على إنشاء مجتمع مفتوح، ديموقراطي وتعددي".

وعَدّ شارون هذا الكلام كضوء أخضر لبدء حربه، التي كان قد تفاهم على خطوطها العريضة، مع ألكسندر هيج نفسه. وكان واضحاً، أن الانفجار بات وشيكاً، بعد أن تأخر مرات عدة، خلال النصف الأول من عام 1982؛ وأن إسرائيل تفتش عن أي ذريعة لتنفيذ هجومها.

لا ريب أن هذه الكلمات أثلجت قلب شارون، وشجعت "الكتائب". فقد استقبلت النشرة، التي يصدرها ممثل القوات اللبنانية اليمينية في واشنطن، دعوة هيج إلى "الإجراء الجماعي" بسرور بالغ.

ومما يؤكد عِلم الولايات المتحدة الأمريكية بتوقيت الهجوم الإسرائيلي، هو تحرك السفينة " U.S.S. Kennedy" من قاعدتها بالمحيط الهندي إلى الشاطئ اللبناني في أول يونيه 1982. وكذلك تحرك السفينة " U.S.S. Eisenhower" من قاعدتها في نابولي إلى جزيرة كريت. وهاتان السفينتان كُلفتا بمراقبة التحركات البحرية السوفيتية، خاصة في حالة تصاعد القتال في لبنان.

ثالثاً: التعاون الإسرائيلي مع القوى اليمينية في لبنان، قبْل الغزو

توجه شارون في زيارة سرية إلى بيروت، يومَي 12، 13 يناير 1982. وكان في صحبته مساعد وزير الدفاع، إبراهام تامير، وقائد قوات الكوماندوز، عاموس يارون، ومن رئاسة الأركان الجنرال يوري ساغي، ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، يهو شواعي ساغي، إضافة إلى ممثلي الموساد وجهاز الأمن، والدكتور بوريسلاف جولدمان. أقلت الجميع طائرة عمودية، في رحلة ليلية، اتجهت شمالاً نحو جونيه.

كان شارون غير مقتنع بالعمليات الوقائية والانتقامية، التي جرت من قَبْلُ في عهد وزير الدفاع السابق، عيزرا وايزمان، وكذلك ما فعله عام 1978، في "عملية الليطاني"، التي كان هدفها إبعاد الفلسطينيين عدة كيلومترات عن حدود إسرائيل. كما كان يرى أن إسحاق رابين، رئيس الوزراء السابق، هو المسؤول عن تعزيز سيطرة سورية على لبنان، واحتلالها العسكري له.

وكان شارون يرى ضرورة انسحاب السوريين والفلسطينيين من لبنان. وقبل سفره، أكد لرئيس الوزراء بيجن، أنه سيعمل على إقناع بشير الجميل بالتعاون مع إسرائيل. وبذلك، يمكن تحقيق النصر للمسيحيين.

وأُعدّ لهذا اللقاء بواسطة الموساد وبالتعاون مع "الكتائب"، من أجل اجتماع شارون وبشير الجميل. وكان شارون يرى أن الوقت قد حان، لإشراك مسيحيي شمالي لبنان، في عملية غزو إسرائيلية، تعالج الأوجه الثلاثة للمشكلة اللبنانية. وتعانق الجميل و شارون بحرارة، وتبادلا بعض الفكاهات.

والواقع، أن قلّة من الأشخاص كانوا يعلمون أن ركائز حرب لبنان ستُرسَى في هذه الزيارة، تلك الحرب التي سميت، فيما بعد، عملية "سلام الجليل". وكان الكتائبيون، وعلى رأسهم بيار الجميل وبشير الجميل ورئيس حزب "الوطنيين الأحرار"، الرئيس اللبناني الأسبق، كميل شمعون، يؤيدون التعاون بين "الكتائب" المارونية وجيش الدفاع الإسرائيلي، من أجل صد الأخطار المحدِقة بالسلام داخل لبنان، خاصة من جانب سورية ومنظمة التحرير. وفي هذا اللقاء، عرض شارون، بقناعة شديدة، العديد من أفكاره وخططه أمـام الحاضرين. وأكد أن إسرائيل تريد حل المشاكل، التي تواجهها، جنباً إلى جنب، مع المسيحيين اللبنانيين، على أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية مشاركة في هذا الحل، لأن ذلك من شأنه أن يلزم السوريين والفلسطينيين بالخروج من لبنان.

وقال شارون، لبشير الجميل: "إن تطور الأوضاع في المنطقة، إضافة إلى استمرار النشاط الإرهابي ضد إسرائيل، وضد المصالح الإسرائيلية في العالم، يشكل خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار، المعقود منذ أشهر، تحت إشراف المندوب الأمريكي فيليب حبيب. وقد يؤدي هذا الخرق، في القريب العاجل، وربما مع بداية صيف عام 1982، إلى حالة تكون فيها إسرائيل مضطرة إلى تدمير البنية التحتية للمنظمات الإرهابية في لبنان".

وأكّد شارون في حديثه، أن هدف هذه الزيارة، هو تكثيف التعاون مع "الكتائب"، من أجل تحرير لبنان من أيدي السوريين والفلسطينيين، وأن قَدَر الطرفين بات مشتركاً، وأصبحا إخوة في السلاح، وعليهما تنسيق مواقفهما وتحضير أنفسهما لكل الاحتمالات.

وكرّر شارون وعد بيجن، بقوله: "لن ندع السوريين يقضون على المسيحيين في لبنان"، وأضاف قائلاً: "عليكم أن تنفذوا وحدكم بعض العمليات، ومن دون مشاركتنا المباشرة. ومن جانبنا، سنقدم إليكم العون المادي، وسندرب قواتكم. كما سنقدم إليكم مساعدتنا في مجالات أخرى".

وردّ بشير الجميل، أنه يرى أن من أَولى الأمور، تحرير سكان شمال جونيه، وعددهم نصف مليون نسمة، من السوريين وأصدقائهم، وأن تحرير هذه المنطقة سيُرسي أسُس لبنان مسيحي. وكما تعلمون، إن من يسيطر على جبل لبنان، يستطيع أن يفرض سلطانه على البلاد كلها. وأكدّ الجميل أنه في حالة قيام قواته بالهجوم على بيروت، كما اقترح شارون، فإن السوريين يمكن أن يردوا في منطقة بيروت، وأن قواته ليست كافية لمواجهة السوريين. وبما أن الإسرائيليين سيكونون منشغلين بالقتال ضد الإرهابيين ، فإن منطقة جونيه، تُصبح لقمة سائغة للسوريين، ويجب أن تتنبهوا ـ موجهاً حديثه إلى شارون ـ إلى أن دخول عناصرنا إلى بيروت، سيجبركم على الالتقاء بنا للدفاع عن وحدة الأراضي المسيحية في شمالي لبنان.

 وبعد انتهاء الاجتماع الموسع، بين شارون وقيادته وبشير الجميل وقيادته ، قاد بشير المجموعة الإسرائيلية إلى بيروت، لكي يوضح لها، على الطبيعة، أوضاع الجانبين المتصارعين[2]. في بيروت، والخط الفاصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. كما زار الإسرائيليون مراكز المراقبة، حيث يطل المرء على المدينة وخط التماس ومواقع القوات. وأخذ شارون يتأمل المدينة بواسطة جهاز مراقـبة، وكان تفكيره يتركز في التكتيك الواجب إتباعه عند الهجوم الإسرائيلي على بيروت. وقرر شارون أن الوقت قد حان للتدخل من أجل تغيير الواقع اللبناني، وإيجاد نظام جديد في البلاد. وأكّد شارون للجميل: "أنه عندما يحين الوقت، لن نتوقف لا عند الليطاني، ولا عند الزهراني، بل سنواصل تقدمنا شمالاً على طول الخط الساحلي حتى مشارف بيروت. وبذلك، سيصبح لديكم الفرصة التاريخية لاستعادة المدينة. وقد علمتني هذه الزيارة، أنه من أجل السيطرة على بيروت، يكفي الاستيلاء على منطقة القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، المسيطرة على طريق بيروت - دمشق. وطبقاً لرأيي، لن تكون أمامكم أي صعوبة للاستيلاء على هذه المنطقة، وقطع محور بيروت ـ دمشق، منذ بداية المعارك. وستكون بيروت، عندها، مطوقة. وستتمكنون من إفراغ المدينة من المخربين وأعوانهم". ووافق بشير الجميل على مقترحات أرييل شارون.

وبعد الانتهاء من زيارة مواقع بيروت، توجه الإسرائيليون إلى منطقة جبل صنين الإستراتيجية، والتي بالسيطرة عليها، يمكن السيطرة على بيروت، ثم زحلة وشتوره. وقال بشير لشارون، وهو يشير إلى محور "ضهر البيدر": "هذه هي المنطقة الحيوية، التي تسيطر على طريق بـيروت ـ دمشـق. فلو بلغتم هذه المنطقة، تَوَجّبَ عليكم الاستمرار في عمليتكم للاستيلاء على زحلة وشتوره. وبذلك يمكن تحقيق سيطرة مسيحية موحدة على معظم الأراضي اللبنانية".

وأثناء اللقاء بين شارون وبشير الجميل، في حي الأشرفية ببيروت الشرقية، في حضور بيار الجميل وكميل شمعون، توجه بيار الجميل بالشكر إلى الإسرائيليين، لجهودهم من أجل مساعدة مسيحيي لبنان. وأكد الجمـيل أن الحرب الأهلية هي السبب الرئيسي لكارثة لبنان الحالية، وأن مصير المسيحيين ومستقبلهم مرتبطان بالتعاون مع إسرائيل. وأكد بيار الجميل أن سورية هي مصدر الخطر الأعظم. وأنه في إمكان لبنان، تحت حكم المارونـيين، أن يشكل جسراً بين إسرائيل والبلاد العربية. أما كميل شمعون، الرئيس اللبناني الأسبق، فقد أشاد بالروابط بين إسرائيل ولبنان، والتي توثقت منذ بدء الحرب الأهلية، وامتدح مناحم بيجن، واصفاً إياه بأنه: "رجل ثقة".

أمّا شارون، فقد أفهم مضيفيه بشكل واضح، أن المسيحيين سيحصلون، قريباً جداً، على الوسائل الكفيلة بتغيير الأوضاع ، وسيتمكنون من تشكيل حكومة انتقالية، إلى أن يصبح في الإمكان تنظيم انتخابات حرة. وخلال هذه الفترة الانتقالية، يمكن أن يشغل بشير الجميل منصباً مهماً.

شعر الإسرائيليون، بعد هذا اللقاء ، أنهم توصلوا أخيراً إلى إيجاد طرف، يمكن الاعتماد عليه ، وأن المسيحيين سيدخلون حلبة الصراع، بالتفاهم مع إسرائيل. وفي الليلة نفسها، اتصل شارون بأحد المسؤولين الإسرائيليين، وقال له: "وضعت حداً للعبة القط والفأر مع المسيحيين. نستطيع الآن أن نمضي قُدُماً. لقد استطعت أن أُقيد أرجلهم ومعاصمهم".

رابعاً: مناقشة الخطة أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي

في أوائل عام 1982، أتاحت قضايا الأمن المثارة داخل إسرائيل، الفرصة لشارون وإيتان، لإقناع الحكومة بضرورة التحرك من أجل العمل داخل لبنان. وأعـلن الرجلان، أمام مجلس الوزراء، أنه إذا كان مكتوباً على إسرائيل اتخاذ إجراء عسكري حاسم، كما ترى أجهزة الاستخبارات، فمن الأجدر، إذاً، التفكير في لبنان أكثر من الجولان. وأكدا أن الإسرائيليين، عـلى كل حال، لا يستطيعون الاستمرار في ترك قواتهم على هذا النحو في جبهتين، ولا البقاء طويلاً داخل لبنان، بحجة أن الأسرة الدولية، ستعارض ذلك الإجراء. ومن ثم، يجب أن تؤدي عملية غزو لبنان إلى الإسراع بإخراج القوات السورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وإلى إنشاء حكومة لبنانية موالية لإسرائيل.

وفي واشنطن، التقى ساغي، مدير الاستخبارات الإسرائيلية، وزيرَ الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، وأفهمه بوضوح، أن كل انتهاك جديد لوقف إطلاق النار، من جانب الفلسطينيين في الجنوب اللبناني، يزيد من قلق القيادة الإسرائيلية، في القدس. كما أطلعه أيضاً على إعادة بناء التحصينات الدفاعـية الفلسطينية، وعلى إعادة توزيع القوات الفلسطينية جنوبي لبنان. كما حذر الأمريكيين من أنه إذا استمرت انتهاكات وقف إطلاق النار، فإن إسرائيل ستتحرك. واستمرت الإدارة الأمريكية على رأيها، مما أدى إلى تأجيل العملية لعدة أشهر.

وفي لبنان، عادت السفن الإسرائيلية لترسو، من جديد، قبالة جونيه. كان الزائر، هذه المرة، هو الجنرال روفائيل إيتان، رئيس الأركان، والجنرال ياكونيل آدام، إضافة إلى ضباط آخرين، ومندوبين عن الموساد. ثم تبع ذلك عدة رحلات مكوكية من أجل تنسيق الخطط المشتركة. وبدأ بشير الجميل في إقامة اتصالات مع مختلف المجموعات في لبنان، من أجل إنشاء جبهة موحدة في مواجهة سورية والفلسطينيين. وكان ينتظر بصبر نافذ الوقت، الذي تقدم فيه إسرائيل لبنان إليه على طبق من فضة.

وفي القدس، ومن أجل إقناع الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين، بذل شارون جهداً كبيراً ليؤكد أن إسرائيل لا تنوي إقامة "نظام جديد" في لبنان، ولا محاربة السوريين، بل هدفها هو القضاء على الخطر الإرهابي. وعلى كلٍ، كان جميع المراقبين غير مقتنعين بأن هذه العملية، لن تورط القدس في نزاع مع دمشق. وكانوا يتوقعون، أن النتائج ستكون مأساوية، والقضية الفلسطينية ستصبح شائكة أكثر فأكثر، وسيزداد نفوذ الاتحاد السوفيتي، في المنطقة، وستنزلق إسرائيل في الصراعات، التي لا تنتهي، بين مختلف الطوائف اللبنانية.  

كانت الخطتان اللتان عرضهما شارون، واللتان طُرحتا على الحكومة الإسرائيلية، ستؤديان بطبيعة الحال، إلى تفجر الموقف. ففي حين كانت "الخطة الكبرى" توصل جيش الدفاع الإسرائيلي إلى مشارف بيروت ومحاصرتها، وكذلك قطع طريق بيروت ـ دمشق، فإن "الخطة الصغرى"، كانت ستوصل جيش الدفاع الإسرائيلي إلى مسافة 45 كم إلى الشمال من الحدود الإسرائيلية. وكانت "الخطة الكبرى"، ترتكز على مبدأ الاختراق من ثلاثة محاور على جبهة واسعة: من جبل حرمون إلى المتوسط. والأخرى كانت لا تختلف عنها، إلا في الأهمـية. فإذا كانت الأولى سـتؤدي حتماً، في اتجاهها أكثر نحو الشرق، إلى مواجهة مع السوريين، فإن الثانية أيضاً كانت تنطوي على نزاع مفتـوح. وفضلاً عن ذلك ، فإن "الخطة الكبرى" ستوقظ في منطقة الشوف الخصومات المحلية الخامدة منذ زمن طويل، مما يُحيي بعض الآمال للمسيحيين، إذ سيعيد لهم جيش الدفاع الإسرائيلي سيطرتهم على هذه المنطقة، في حين تتولى إسرائيل مهمة الشرطة داخل لبنان. وكان من المفترض، بعد القضاء على الضغط العسكري السـوري، أن تتجاوز "الخطة الصغرى"مدى الـ45 كم المتوقعة، بمعنى انتقال القوات الإسرائيلية إلى تنفيذ أهداف "الخطة الكبرى"، ولكن كان من المحتمل أن يرتفع حجم الخسائر الإسرائيلية، بسبب استعداد الجانب الآخر.

ومن وجهة النظر العسكرية، اعتمدت الخطة الكبرى على أن تحتل القوات المحمولة جواً بعض المحاور الأساسية، قبل السوريين. ولكن إذا حدث الانتقال من "الخطة الصغرى" إلى "الخطة الكبرى"، فإن انتشار القوات الإسرائيلية والفلسطينية على هذه المحاور الإستراتيجية، سيتطلب تقدُم المدرعات الإسرائيلية عبْر الجليل، على طرقات ضيقة ومتعرجة، حيث تصبح المعارك أكثر صعوبة ودموية.

ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية، كانت تفكر في أنه إذا استبعدت "الخطة الكبرى"، وجرى تفضيل الأخرى عليها، يصبح من الممكن تلافي النتائج المأسوية للحرب. لكن، في الواقع، سـارت الأمور على غير هذا النحو. فخلال شهر فبراير1982 ، أوشكت الحرب أن تقع على الحدود الشمالية، حيث كان الوضع متفجراً، إذ كانت الدبابات وقوافل المشاة وشاحنات التموين، تشق طريقها بشكل مكشوف، وتنتشر في مواقع حساسة. واستمر كل من بيجن وشارون وإيتان في الإعلان أمام الصحفيين: "إننا لن ندع الإرهابيين يضربوننا تحت غطاء وقف إطلاق النار". وهكذا، كان بيجن على اقتناع بأن الشكل، الذي تضمن فيه إسرائيل أمنها، مبرراً تماماً.

وفي 12 فبراير، اتصل سام لويس، السفير الأمريكي، بنائب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، حنان باراون، وأبلغه أنه وفقاً للمعلومات المتاحة، فإن جيش الدفاع الإسرائيلي يُعِد العُدة لعملية وشيكة. ويبدو أن هذا الأمر لا يأخذ في حسبانه المحادثات الأخـيرة مع فيليب حبيب، التي كان هدفَها انفراج في الجو السياسي، وحل قضايا المنطقة، ومن ثم، الشروع في العمل. ثم أعرب عن أمنيته أن تكون كل هذه المعلومات دون أساس ، وإلاّ فإن أزمة جديدة، يمكن أن تقع في إطار العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية. ومن الفور، أبلغ باراون رئيس الوزراء الإسرائيلي هذه الرسالة الصريحة. وكان رد بيجن على السفير موجزاً: "معلوماتكم ليس لها أي أساس ، نرجوكم عدم استخدام التهديدات ضدنا، واتركونا نواصل الحوار، كما ينبغي أن يكون".

وفي لقاء بين بيجن والسيناتور الأمريكي جـون جلين John Herschell Glenn، والسيناتور وليم كوهين William S. Cohen ، قال بيجن: "في ما يختص بوقف الأعمال العسكرية، اسمحوا لي أن أطلعكم على الخطوط الكبرى، التي تم الاتفاق عليها بيني وبين فيليب حبيب. إن وقف الأعمال العسكرية يفترض احترام النقاط التالية:

1. الامـتناع عن أي عمل عدائي، في البحر والبر والجو، ضد أهداف إسرائيلية. ولا يقتصر فقط على أعمال التسلل من لبنان.

2. عدم توجيه أي نشاط عسكري ضد لبنان.

3. الامتناع عن أي عمل عدائي ضد المنطقة التي يسيطر عليها حداد (هذا البند غالباً ما انتهكه الفلسطينيون).

4. إن إسرائيل تعُدّ كل عمل إرهابي موجه ضد الإسرائيليين واليهود في العالم، انتهاكاً للاتفاق المعقود. (هذا البند أيضاً لم يُحترم، إذ حدثت هجمات في فيينا وأثينا وروما وبرلين).

وأكّد بيجن أنه خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي، ألكسندر هيج، اقترحتُ عليه صيغة حول أننا لن نتدخل، إلاّ للرد على "استفزاز كبير".


 



[1] يبدو أن التغير في الموقف الأمريكي من الدور السوري في لبنان، كان عنصراً رئيسياً، إذ قال شامير لإحدى لجان الكنيست: إن الإدارة الأمريكية كانت في السابق تَعُدّ سورية عاملاً من عوامل الاعتدال والاستقرار في لبنان. ولكنها، الآن، تعيد النظر في هذا التقويم، بسبب وجود 10 آلاف مستشار سوفيتي في سورية

[2] السوريون والفلسطينيون من جانب، وقوات `الكتائب` المسيحية، على الجانب الآخر

[3] يُشكل اللواء المدرع الإسرائيلي من 110 دبابات

[4] عقد مؤتمر القمة العربي السداسي، في الرياض، في الفترة من 16 إلى 18 أكتوبر. وقد قرر المؤتمر تعزيز قوات الأمن العربية الحالية، لتصبح قوة ردع، تعمل داخل لبنان، بأمر رئيس الجمهورية اللبنانية شخصياً، على أن تكون في حدود ثلاثين ألف جندي، ويكون من مهامها، فرض الالتزام بوقف إطلاق النار، حفظ الأمن الداخلي، مساعدة السلطة اللبنانية، عند الاقتضاء، على استلام المرافق والمؤسسات العامة