الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الثالثة عشرة
بعنوان

هل تبـــدأ؟

نُشرت في جريدة "الحياة"
الأربعاء، 27/11/1418هـ الموافق 25/3/1998م


بسم الله الرحمن الرحيم

اكتمل المشهد السادس، وحدث ما توقعنا، في المقال الذي نُشر في السادس عشر من فبراير الماضي، وهو "أن يرضخ صدّام حسين لمطالب المجتمع الدولي، ويوقف هذه المهزلة، التي تكررت على مدى سبع سنوات، ويَقبل شروط التفتيش وإزالة أسلحة الدمار الشامل، من دون قيد أو شرط. وكما عوّدنا، يكون الرضوخ والإذعان في اللحظات الأخيرة، أو بعد بدء الضربة، والتأكد أن الخصم جادٌّ في ما أعلنه".

وسُئلت، لِمَ رجّحت هذا الاحتمال، على الرغم من أن قِلة من المحللين، هم الذين نَحَوْا هذا المَنْحى؟ فأجبت، إن المشاهدَ الخمسة السابقة، هـي التي أوحـت إليّ بهذه النتيجة. فالأمر لا يحتاج إلى ذكاء أو كبير عناء، فمن يدرس التاريخ، ويحلّل الحاضر، يستَطِع التنبؤ بالمستقبل ـ الذي لا يعلمه إلاّ الله ـ إلى درجة مقبولة.

وتابعتُ الأقلام، التي انبرت تصف الحدث، كأنه صفعة للولايات المتحدة الأمريكية، ولمن مشى في ركابها، مثل بريطانيا وأستراليا وألمانيا، وأنه انتصار للشعب العراقي، كما صوّرته أجهزة إعلامه، وأنه انتصار أكبر للإرادة العربية. وأخذت الصحف، أيضاً، تصف ما حدث، أنه انتكاسة لسياسة واشنطن وخيبة أمل لها، وتتهمها أنها تزن الأمور بمكيالين، ولا تفكر إلاّ في مصالحها.

كما شاهدتُ صور تظاهرات الجماهير، التي خرجت تزأر: "بالروح، بالدم، نفديك يا صدّام"، وترتدي القمصان وقد طُبعت عليها صُوره. جماهير طيبة، سريعاً ما تنفعل، سريعاً ما تنسى، سريعاً ما تغفِر. جماهير ذات طاقة هادرة، فاعلة إذا أُحسن توجيهها، بنّاءة إذا أُحسنت قيادتها. إن دماءها الزكية، وأرواحها الطاهرة، يجب ألاّ يُبْذَلا إلاّ تحقيقاً لهدفٍ أسمى، وفي سبيل قضية أغلى.

وتعجبت، هل هانت علينا أنفسنا إلى هذا الحد، حتى بِتْنا نعُدّ ما حدث انتصاراً عظيماً للأمة العربية والإسلاميـة؟ أتجنُّبُ قصـف شعبٍ مغلوبٍ على أمـره، يصبح انتصاراً، أم هو أمرٌ لا يصح سواه؟ أتراجُع رئيس دولة عن قرار خاطئ، يُمسي فوزاً سياسياً، أم هو أمرٌ لا يُقبل عداه؟ وهل إذعانه، الذي تكرر ست مرّات، فضلٌ يستحق عليه كل هذا التكريم والتأييد؟ ولكي نكون واقعيين، علينـا أن نتساءل، ما الذي خسرتـه الولايات المتحدة الأمريكيـة؟ وما الذي تكلّفتْه إسرائيل؟ لقد أُحرق عَلماهما، غير مرة، خلال التظاهرات، التي حدثت في أماكن متفرقة. هذا ـ فعلاً ـ هو كل ما خَسِرَتَاه. أمّا المكاسب، فكثيرة. فأسعار النفط تدهورت، والقوات المسلحة الأمريكية تدربت، والولايات المتحدة احتفظت بكامل هيبتها، واستمرت رافعةً قبضتها، حتى الرضوخ الكامل لمطالبها وشروطها، وهي لا تزال في أماكنها، تراقب وتنتظر. وإسرائيل كعادتها، لم تفوّت الفرصة، فحصلت على الملابس الواقية، من دون مقابل، ودرّبت قواتها المسلحة على الاستعداد لأسوأ الاحتمالات، وتلقت العطايا والمساعدات، عينية ومالية، وتعاطف معها بعض الدول، خشية أن يطالها صاروخَا سكود، اللذان ما زال العراق يمتلكهما. المهم، أنهما، الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ، حصدتا من الغنائم، ما لا يخفى على أحد، وما يتعمّد كثيرون عدم إظهاره، أو التظاهر بعدم معرفته، حتى لا تضيع بهجتنا بهذا الانتصار!

إن أشدَّ ما أخشاه، أن يظن النظام العراقـي الحاكم، أن ما حدث كان تأييداً له، وتهليلاً لمواقفه، وانتصاراً لسياسته. إن ما حدث، كان بهدف تجنيب الشعب العراقي تحمّل أخطاء قيادته، من ويلات ما برح يعانيها، منذ بداية الثمانينيات حتى الآن. وتجنيب العراق التقسيم، ورغبة في عدم تدمير قوة عسكرية، كان من المفروض، أن توضع في الكفة العربية للميزان العسكري، المختل، في الشرق الأوسط. إن ما حدث كان رد فعل نفسياً، لِمَا يشعر به العرب، إقليمياً، من ظلم واضطهاد، من إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية. وما يشعر به المسلمون، دولياً، من ظلم أكبر واضطهاد أقسى، من جرّاء تطهير عرقي بشِع، آخره أحداث كوسوفو، وما جرى في البوسنة والهرسك ليس ببعيد.

أخيراً، لماذا نلوم الدولتَيْن، في بحثهما عن مصالحهما؟ لماذا نردد كلمتَي "الكيل بمكيالين"؟ وكأن هذا الموقف جديدٌ علينا وعليهم! إن هذا الكيل مستمر، منذ عام 1947، وقد أدركه الملك عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ بحسِّه الوطني وبُعْد نظره السياسي، حينما أرسل إلى الرئيس الأمريكي، يناشده ألاّ يفرّق في نظرته إلى العرب واليهود في فلسطين، ويحثّه أن يكون محايداً في سياسته، عادلاً في مواقفه. فعلينا ـ نحن العرب ـ أن نوجّه اللوم إلى أنفسنا، وأن نبحث عن مصالحنا، كما يبحث الآخرون عن مصالحهم. وأن نتفق على الحد الأدنى، حتى يكون لدينا أمل، أن نصل إلى الحد المقبول. علينا أن نستثمر المواقف الدولية، التي ارتفعت فيهـا الأصوات، ولو خجلاً، تنادي بالوقوف في وجـه السياسات الجائـرة. علينا ألاّ نفرح، ونَحْسَب أن الرضوخ لتنفيذ القرارات الشرعية، هو قمة الانتصار. إن الانتصار الحقيقي، الذي يعيد إلى العرب كرامتهم، ويفرض وجودهم على مسرح التاريخ، ويعيدهم قوة سادسة، مرة أخرى، طريقه طويل، ولم تبدأ الخطوة الأولى بعد.

فهل تبدأ؟ أم قُدِّر لنا أن ننتظر المشهد السابع؟

------------------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة