الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الرابعة عشرة
بعنوان

... ولا عــزاء للضعفاء

نشرت في جرائد "الحياة"، و"الأهرام"، و"القبس"
السبت، 12 صفر 1419 هـ، الموافق 6 يونيه 1998 م


بسم الله الرحمن الرحيم

تسلسل الأحداث

          خلال الشهرين الماضيين، تتابعت الأحداث بسرعة مذهلة، وتفاوتت ـ كالعادة ـ ردود الأفعال، ما بين معارض ومؤيد ، ومستنكِر ومشجّع، فضلاً عمّن آثَر السلامة والتزم الصمت. أحداث تُشْبه المسرحيات في فصولها. ولو قدمت على المسرح، لقُلنا إنها غير واقعية، وإن المخرج، بلا شك، جنح به خياله. فالفصل الأول بدأ بداية مألوفة، عندما أطلقت باكستان صاروخاً، في 6 أبريل الماضي، قالت إنه قادرٌ على حَمْل رؤوس نووية، ومداه 1500 كم، وذلك للردّ على أي مغامرة هندية، بعد أن تعهدت الحكومة الائتلافية الجديدة في الهند، في برنامجها، "إعادة النظر في سياستها النووية، وممارستها الخيار النووي". وشعور باكستان بالغبن لمحاباة الولايات المتحدة الأمريكية   الهند على حسابها، والتغاضي عن المشروع النووي وبرامج الصواريخ الهندية، مقابل تسليط الأضواء، وانتقاد كل ما تفعله باكستان في هذين المجالَيْن. وتشديد الحملة من جانب إسرائيل على ما تعدّه برنامجاً إيرانياً لحيازة الأسلحة النووية وتصنيعها، بمساعدة من روسيا وغيرها من دول الاتحاد السوفيتي السابق. وترديد أمريكي لكل ما تقوله إسرائيل.

          أمّا الفصل الثاني، فقد بدأ في 11 مايو الماضي، بخمسة تفجيرات نووية هندية، أعقبها زُهُوٌّ وخُيَلاء واستعلاء من الجانب الهندي، وتهديد صريح ومباشر لباكستان . ثم اعتراض من دول، وتأييد من أخرى. ومحاولات مَنْع صدور قرار إدانة من مجلس الأمن. وبينما اُكتُفي للهند بحظر اقتصادي، على استحياء، مُورسَت الضغوط على باكستان ، لإرغامها على عدم الردّ على هذه التجارب. وغليان في الشارع الباكستاني، يطالب بردّ الاعتبار، بعد أن صار مهدَّداً، شاعراً بالضعف والخذلان، رافعاً شعار: "نموت في عزة، خير من أن نحيا في مهانة". ودعوة من الهند لباكستان إلى مائدة المفاوضات، مرغَمة، ومن دون شروط مسبقة، وعليها عدم إثارة مشكلة كشمير، على الرغم من أنها أساس المشاكل بينهما. ف الهند تتحدث من مركز قوة، وأيّ قوة! قوة نووية.

          لم يترك لنا المُخرج فرصة لالتقاط الأنفاس، والاستراحة بين الفَصلَين، الثاني والثالث، وإذا بالستار يُرفع سريعاً عن خمسة تفجيرات باكستانية. ولم تكَد التعليقات تبدأ، حتى حدَث التفجير السادس. وانقلبت المشاهد. فرْحة عارِمة في باكستان، وفرحة لم تتم في الهند. مناقشات حادّة في البرلمان الهندي، عن المتسبب بإطلاق الرعب النووي، في الجنوب الآسيوي. مَنْ دان في الفصل الثاني، شجّع أو صَمَت في الفصل الثالث. مَنْ أوقف صدور قرار إدانة من مجلس الأمن، يقود حملة ضارية لصدور مثل هذا القرار. وللمرة الأولى، نسمع صوت إسرائيل ، لا لتدِين، بل لتحذّر من إيران، على الرغم من أن الأحداث تدور بين الهند وباكستان . وأخيراً، نسمع أصواتاً هندية، أكثر تعقلاً وروِيَّة، تنفي أنها تقصد باكستان، وإنما كان هدفها التوازن مع الصين. لِمَ هذا التغيير؟ لأن باكستان انضمت، كذلك، إلى النادي الذري، نادي الأقوياء، الذين يتكلمون فيُسمَعون!

          هذا ما حدث في الفصول الثلاثة الأولى، من تلك المسرحية، التي لم يُسدَل عليها الستار بعـد، ولا ندري ما الذي يُدبَّر خلف الكواليس، فالخيارات مفتوحة، والاحتمالات متوقّعة.

أنلوم الهند أَمْ باكستان؟

          ليس من المنطق لَوْم الهند ، لاتخاذها من الإجراءات ما يحقق أمْنها ويشبِع طموحاتها، ما دام العالم تسُوده حالة من الظلم البيّن. فَمَن يلتزم يُلَمْ، ومن ينتهِك يُحترم. من يَظْلم يُعَظّم، ومن يُظلم يُطلب منه ضبط النفس والكثير من التنازلات. وبالمِثل، ليس من المنطق لوم باكستان، لأنها كانت سريعة في ردّ الفعل، فهذا من حقها، إذا كان في العالم مَن لا يزال يُقر بالحق الشرعي للدول. وكَفَانَا أقوالاً سخيفةً، تلصق كل تهمة بالإسلام: "قنبلة إسلامية، إرهاب إسلامي، قهر إسلامي". فهي محاولات استعداء العالم على الدول الإسلامية، ومحاولات جعْل الدول الإسلامية، دوماً، في قفص الاتهام! إذا دافعت عن نفسها هي متهَمة، وإذا حاربت الظلم هي متهَمة، وإذا حاولت إثبات وجودها وحقّها في حياة حرة كريمة، هي متهَمة، وإذا ضعفت واستجابت، وطلبت السلام هي، كذلك، متهَمة.

          قبْل أن أسترسل، أودّ أن أذكُر، بشيء من الدهشة، تصريحاً للوكالة الدولية للطاقة النووية، تعقيباً على تساؤل عن حق الهند في إجراء تجارب نووية، كوْنها "لم توقع الاتفاقات الدولية في شأن حظْر الأسلحة الذرية"، إذ قالت الوكالة: "إن من حق الهند إجراء تجاربها، لأنها لم توقّع الاتفاقات الدولية للحدّ من انتشار الأسلحة النووية" وأضافت "أنها "لن تصدر "حكماً نوعياً" على التفجيرات الثلاثة، إذ لا يمكن اتهام الهند بأنها نكثت بأي وعد، لأنها لم تَعِدْ، في المقام الأول. نيودلهي فعلت شيئاً، سبق أن احتفظت بالحق في فعله". وكانت الهند قد رفضت توقيع معاهدات الحدّ من الانتشار النووي، وحظْر التجارب النووية، متذرعة بأن الدول النووية الكبرى، تُمارس، من خلال هذه المعاهدات، سياسة تمييز ضد الدول الأخرى.

          عجباً! وكأنّ مَنْ التزم بما يجب أن يكون، قد أخطأ في حق نفسه. فإذا بحث وطوّر قدراته، فَلَهُ الويل، كل الويل. أمّا مَنْ لم يلتزم، ولم يُعِر اهتماماً لأيّ اتفاقات دولية، وطوّر وأنجز، فلا لوم عليه. هذا هو العالم، الذي لا يحترم إلاّ الأقوياء، الذين يفرضون أنفسهم ويثبّتون أقدامهم، ولتذهب المُثُل والقِيَم والحق والعدل، إلى الجحيم؛ فهي شعارات تطلقها الدول القوية، لتطيِّب بها خاطِر الدول المغلوبة على أمرها!

التوازن الإستراتيجــي

          والسؤال الذي يطرح نفسه، بشدة، هو: هل هذه الأفعال وردودها، تحقِّق توازناً إستراتيجياً في المنطقة؟ قبْل الإجابة بنعم أو لا، فلنستعرضْ معاً بعض الأحداث والمشاهد. في عام 1962، هُزمَت الهند. عسكرياً، واحتلت الصين بعض أراضيها. كان التوازن مُختلاً، في ذاك الوقت، وازداد اختلالاً في عام 1964، عند التفجير النووي الصيني الأول. وقَبِلت الهند. تسوية، هي أكثر ميلاً إلى مصلحة الصين منها إلى مصلحة الهند . ودارت حروب ثلاثة بين الهند. وباكستان، وقَبِلت الهند تسوية، تكاد تكون متعادلة مع جارتها. وبالتفجيرات الهندية الخمسة، فَرضت الهند نفسها قوة نووية، ينبغي أن يُحسب حسابها، وأن تدخل في معادلة الكبار، عند تعاملهم مع المشاكل الآسيوية. كما أنها أعادت التوازن إلى العلاقات الهندية ـ الصينية. ولكنها أحدثت، في المقابل، خللاً إستراتيجياً بين الهند وباكستان.

          ماذا حدث على الجانب الهندي؟ طَفِقَت الهند تهدِّد وتتوعد، ولا تقبَل حواراً، ولا تفكر في سلامٍ. وأعلنت استعدادها لتوقيع اتفاقية حظْر الأسلحة النووية، لتضع باكستان في موقف حرِج أمام العالم. ولم تكتفِ بذلك، بل هدّدت باحتلال الجزء الذي تديره باكستان من كشمير. وقال وزير الداخلية الهندي، لال كريشنا: "يجب على باكستان أن تطوي صفحة سياستها المناهضة للهند، خصوصاً ما يتعلق بكشمير. وما لم تفعل، فسوف تتخذ حكومتنا موقفاً حازماً". وبادر كذلك، مادان لال خورانا، وزير الشؤون البرلمانية، إلى التصريح: "نقول لباكستان كفَى ما كان. ولن نتحمل، بعد الآن، أيّ تدخّل من جانبها في أمر كشمير". كانت تلك التصريحات أولى ثمار الخلل الإستراتيجي.

          بعد التفجيرات الباكستانية، أجمع كثير من المحلّلين على أن التوازن الإستراتيجي بين الدول الثلاث ـ الهند و الصين وباكستان. قد تحقّق. وأصبح احتمال نشوب حرب نووية في القارّة، مستبعداً. وكذلك، فإن احتمالات نشوب حروب تقليدية، قد تقلصت. وبات السلام، الذي كنّا نفتقده، قريباً. تغيرت لهجة التهديد الهندي، ونشب بين أعضاء البرلمان، الذين صفّقوا، في 13 مايو، للتفجيرات الهندية، مشاجرات واتهامات بإيقاظ الرعب النووي من مَرقده. وقال رئيس الوزراء الهندي: "إننا لا نريد شرّاً بباكستان. وليس لها أن تخشى شيئاً من الهند . وإننا مستعدّون للحوار معها".

          إذاً، أصبح الردع النووي المتبادل، أداة للتوازن الإستراتيجي بين الدول. الأحداث تؤيد ذلك. وما حدَث بين الولايات المتحدة و الصين ، وتغيّر السياسات الأمريكية تغيّراً جذرياً، بعد التفجير النووي الصيني، ليس ببعيد. فالدول الكبرى، التي تدِين وتستنكر، وتحاول أن توقف السباق الذري المحموم ـ ولو ظاهراً ـ هي التي غذّت فكرة أن الاحترام للقوي والتقدير له. وألاّ مكان في العالم للضعفاء. فالبقاء للأقوى، ولا عزاء للأضعف. قد يصبح مثل هذا الردع طريقاً إلى السلام، وقد يحُول دون الحروب التقليدية، ويُعجّل بحضور أطراف النزاع إلى طاولة المفاوضات. فلا معنى لأن يجلس القوي إلى الضعيف، ويستجيب لمطالبه. لن يستجيب القوي. وإذا تفضّل على الضعيف بلقمة، ألقاها إليه بكبرياء وصلف وعنجهية مثقَلة بالشروط والقيود. وفي المَثل قالوا: لا يَفِلّ الحديدَ إلاّ الحديدُ. أمّا شعارات: العدل، والحق، والإنسانية، والسلام، والخُلق، فلا معنى لها، من دون قوة تحميها وتفرضها على أرض الواقع، وما عدا ذلك، فهو سراب يلهث وراءه الضعفاء، آملين نظرة عطف، أو عين رضا من الأقوياء.

القوة النووية واستقرار الأمم     

          يقودنا السؤال الأول إلى السؤال الثاني: وهل تكفي القوة النووية، التي تخلق التوازن النووي، لإحداث الاستقرار والسلام بين الدول؟ إن التوازن النووي، سيخلق ، من دون شك، حالة من السلام المترقّب، ولكنه سيقود إلى سباق ـ غير محمود عواقبه ـ في الأسلحة، بأنواعها المختلفة. هذا السباق، سيؤثّر تأثيراً مباشراً، وجذرياً، في مشروعات التنمية، ولا سيما إذا كانت دولها تحت خط الفقر أو قريبة منه. فالقوة الشاملة لا تقاس فقط بالقوة العسكرية، وإلاّ لَمَا انهار الاتحاد السوفيتي، وتفككت دوله. فالقوة العسكرية، من دون قوة اقتصادية تساندها، مآلها إلى الانهيار، واستجداء لقمة العيش من الأعداء. وهذا ما يدعو الدول، التي تداعبها أحلام القوة والمَنعة، إلى حساب عوامل القوة حساباً دقيقاً، وعدم الانزلاق إلى أحلام اليقظة، ولا سيما أننا نعيش في عالم يحكمه الاقتصاد أساساً. وإذا نظرنا إلى حروب النصف الثاني من هذا القرن، نَجِد أن أسبابها اقتصادية، في المقام الأول. وعلى الرغم من ذلك، فشعار "فقر في عزة، خير من غنًى في مذلة" قد يفرض نفسه على الأحداث. وهنا يأتي الاختيار الصعب لكل شعب.

الموقف الأمريكي

          ما هو الموقف الأمريكي، من كل ما يدور على أرض الواقع، في المنطقة المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط، التي تتحكم فيها واشنطن ، وتتركها ساحة مفتوحة لإسرائيل، من دون ضوابط؟ لقد استبشر العالم خيراً، عندما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة، بعد تَفكّك "دولة الشر"، كما كانت تطِلق على الاتحاد السوفيتي. وتردّد أن "النظام العالمي الجديد"، هو النظام الأكثر انضباطاً واستقراراً، والأكثر أمناً وأماناً، الأكثر احتراماً لحقوق الإنسان، والأكثر ديموقراطية وعدلاً. فإذا به يتحول إلى عالم أكثر فوضوية، تسُوده شريعة الغاب، ولا مكان فيه للحق، ما لم يُنتزع عنوة. وأصبحت المواقف الأمريكية تتّسم بالتناقض، وعدم الثبات، إلاّ في قضية واحدة، هي: الانحياز الكامل، السافر، إلى إسرائيل .

          إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ، في المجال النووي، قائمة على الازدواجية في المعايير، والتمييز بين الدول، وهي خالية من أي التزامات أو مبادئ واضحة. فبينما هي الدولة الوحيدة، التي استخدمت السلاح النووي مرتين، عام 1945، فهي نفسها التي أيدت امتلاك بريطانيا للسلاح النووي، في أكتوبر 1952، وهي نفسها التي لم تندّد أو تعارض فرنسا ، عندما فجّرت قنبلتها الأولى، عام 1960، وهي التي تغض الطرف عن جهود إسرائيل في هذا المجال. إضافة إلى تجاهُلها التام لسرقة إسرائيل اليورانيوم المخصب من معمل نووي في ولاية بنسلفانيا ، واختطافها سفينة محملة بخام اليورانيوم، وتفجيرها النووي التجريبي الذي أجرته في الجو، متعاونة مع دولة جنوب أفريقيا (سابقاً). وتقصف مصنعاً في ليبيا ، للاشتباه في إنتاجه أسلحة كيماوية. وتفتش القصور والمباني، لأكثر من سبع سنوات في العراق، بحثاً وتدميراً لكل ما يمتّ بصِلة إلى أسلحة كيماوية أو ذرية أو بيولوجية. وتظهر غضبها من جرّاء التفجيرات الهندية، من دون اتخاذ أي إجراء حاسم، إلاّ بعد عدة أيام، بينما تضغط على باكستان لضبط النفس. ثم تفرض العقوبات الاقتصادية الفورية عليها، وتتوعّدها، وتشنّ حملة ضدها في جميع المنظمات النقدية الدولية. ومن قَبْل، ضغطت على مصر والدول العربية للانضمام إلى معاهدة حظْر انتشار الأسلحة النووية، وهددتها بشتى ألوان الضغط الرخيص، في الوقت الذي لم تحاول فيه أن تناشد (وليس تضغط) إسرائيل التوقيع أو الالتزام بما التزمت به الدول الأخرى في المنطقة.

          إن مثل هذا السلوك، يُضعف مصداقية الولايات المتحدة في العالم كله، ويجعل الدول تستخفّ بها، بل تتحدّاها، حتى وصل الأمر أن تُهدَّد في عقر دارها، من نتانياهو، بحرق عاصمتها، ولا يجرؤ أحد أن يتفوّه بكلمة. ولقد كان زبيجنيو بريجنسكي، المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي، على حق، عندما قال: "لا شك أن النهج الانتقائي والتمييزي، للولايات المتحدة، لا يقدِّم شيئاً مقنعاً إلى الدول والقوى الأخرى، لكي تمتنع عن المضيّ في تطوير ترسانتها النووية. كما أن ممارسة الولايات المتحدة لحقها في مساعدة الدول الصديقة على تطوير ترساناتها النووية، ستُشعر الصين وروسيا بأن لهما الحق نفسه في اتخاذ خطوات مماثلة، فيمكنهما مساعدة باكستان أو إيران أو أي دولة أخرى".

          وكان نائب الرئيس الهندي، كريشنان كنت، في ختام اجتماعات قِمة مجموعة الـ 15 في القاهرة ، صادقاً عندما قال: "إن الهند ملتزمة بنزع شامل للأسلحة النووية، منذ عام 1956، شريطة أن تتحقق الشمولية والعدالة، بموجب أي اتفاقات في هذا الشأن". وكان المنطق النووي الهندي، واضحاً: "إذا كان السلاح النووي، يُعد ضمانة في أيدي الأمريكيين والدول النووية الأخرى، فلماذا لا يكون في أيدي الهنود؟".

          إن الحصيلة النهائية لسباق التسلح النووي، ستكون مدمِّرة رهيبة، لصعوبة السيطرة عليه، واحتمال انفلاته من عقاله. فما دام المجتمع الدولي عاجزاً عن وضع حدٍّ لذلك، أو ضوابط عادلة لحل المشاكل الإقليمية، سيظل الوضع على خطورته، بل سيزداد سوءاً، وسيدفع الدول، كل الدول، خاصة تلك التي تستشعر الظلم، وتعرف أن التزامها يفرض عليها مزيداً من المذلة والاستكانة، إلى البحث عن القوة النووية، مهْما كلفها الأمر، في وجْه الدول المتغطرسة، التي تتدثر بسلاحها النووي، وتتبجح بترسانتها العسكرية. وأعتقد أن هذا اليوم ليس بعيداً.

فشل الاستخبارات الأمريكية    

          هل يمكِن أن نصدّق فشل الاستخبارات الأمريكية في متابعة البرنامج النووي الهندي، كما وصفه السناتور ريتشارد شيلي، النائب الجمهوري عن ولاية ألاباما، الذي يرأس لجنة شؤون الاستخبارات في الكونجرس؟ يصعب على المرء تصديق ذلك، من جانب دولة يدور لها في الفضاء عدد من الأقمار الصناعية، يستعصي حصره، يمكّنها استطلاع كل نشاط مَهْما صَغُر، وخُصَّت ميزانية أجهزة استخباراتها ببلايين الدولارات! وهل نشاط نووي، كالذي حدث في الهند يمكِن أن يمر مَرّ الكرام على أجهزة رصد ـ عالية التقنية ـ من كل نوع، وفي كل مكان؟ فهل تسعى واشنطن إلى إدخال القارّة الآسيوية في سباق التسلح النووي؟ وهل غضّت الطرف عن الاستعدادات الهندية، حتى تصبح الهند قوة نووية في مواجهة الصين، التي رشحتها كافة التحليلات قوة عظمى في بدايات القرن المقبل؟ وهل كان العامل الاقتصادي وراء التغاضي الأمريكي؟ كل شيء جائز، في عالمنا الحاضر، خاصة إذا كان يتعلق بالجانب الاقتصادي. إن انشغال الصين و الهند بالإنفاق النووي، واستنزاف مواردهما في الحصول على المزيد من القوة العسكرية، لن يُبقِي لهما شيئاً للإنفاق على التنمية والازدهار، كما أنه سيزيد الضغوط على اليابان وكوريا الشمالية لمجاراة نيو دلهي و بكين. وكل هذا يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، ومَنْ يدور في فلكها. وإذا كانت المقولة الفرنسية القديمة هي "ابحث عن المرأة"، ففي عالم السياسة، اليوم،  نقول: "ابحث عن الاقتصـاد". وأقـرب مثال على ذلك، انهيار النمور الآسيوية انهياراً مفاجئاً، غير محسوب، لم يتأثر به إلا دولها. هل حدث ذلك مصادفة؟

القنبلة الإسلامية

          أطلقت بعض الجهات والدول، وللأسف بعضها عربية، على القنبلة الباكستانية، اسم "القنبلة الإسلامية". ولا ندري ما علاقة الإسلام بتفجير نووي هنا، أو إطلاق صاروخ، يمكِنه حمْل رؤوس نووية هناك؟ فلماذا، مثلاً، لم يُطلق اسم "القنبلة المسيحية" على أولى قنابل الولايات المتحدة، التي فُجّرت، عـام 1945، في نيو مكسيكو؟ ولماذا لا نطلق اسم "القنبلة اليهودية" على القنابل المائتين، التي تمتلكها إسرائيل؟ ولماذا لم نطلق اسم "القنبلة الشيوعية" على أولى القنابل النووية التي امتلكها الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، لاحقاً بركب الولايات المتحدة الأمريكية؟ ولماذا لم يُطلق على التفجيرات النووية الهندية اسم "التفجيرات الهندوسية"؟ ومتى كان للقنابل دين أو معتقَد أو مذهب!

          نعم، إن الإسلام دين سلام، ولكنه ليس دين استسلام. يحضّ على السلام، شريطة أن يكون سلاماً عن قوة، وليس سلاماً عن ضعف، سلاماً عن عزة ورفعة، وليس سلاماً عن استكانة وخنوع. ففي الوقت الذي يحض فيه الإسلام على السلام، يدفع المسلمين إلى الأخذ بكل أسباب القوة، ليس للاعتداء، ولكن لردع الطامعين المعتدين. وفي هذا المجال، لم يكُن الإسلام فريداً في منهجه ورؤيته. أَلَيس الردع النووي المتبادَل بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي (السابق) كان سبباً في تحقيق سلام غير معلَن بينهما؟ أَلَيس هذا ما تسعى إليه إسرائيل حالياً، من امتلاكها للسلاح النووي، وبذل الجهد كله لمنع أي دولة عربية من امتلاكه، حتى تصبح لها اليد الطولى في المنطقة، تعربد فيها كما تشاء، وتلوي الحقائق والتاريخ كما تريد، وترفض النصائح كلها، وتهدد بحرق واشنطن إذا ضغطت، ضغطت فقط، لقبول إعادة انتشار ( وليس انسحاباً) من 13 % من أراضي الضفة الغربية، التي تمثّل، حقيقة، أقلّ من 1% من أرض فلسطين؟

الموقف الإسرائيلي

          صدر أول تعليق لإسرائيل بعد التفجيرات النووية الخمسة لباكستان . وكان تعليقاً غريباً، فبدلاً من أن يتحدث عن تلك التفجيرات، إذا به يحذّر من انضمام إيران إلى النادي الذري! فقد قال الناطق باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي: "إذا وصلت أسلحة من هذا النوع إلى أيدي أنظمة، مثل نظام طهران ، فإن خطر زعزعة الاستقرار، يصبح أكبر". إن إسرائيل حاولت، وتحاول بشتى السُّبُل، استعداء واشنطن على طهران بحجة تهديد إيران للدول الخليجية، واحتمال سيطرتها على منابع النفط، مما يخلق أجواء من التوتر بين إيران والدول العربية، خاصة بعد التقارب الواضح بينهما، والتغير في سياسات طهران الخارجية في عهد الرئيس محمد خاتمي. فإسرائيل لا تعيش إلا على الفُرقة بين الدول العربية، والوقيعة بين الدول الإسلامية، ولا تطيق أن يمتلك بلد عربي، أو إسلامي، قريب منها، أيّاً من أسباب القوة، حتى تبقى، وحدها، المسيطرة على مسرح الأحداث، تأمُر فتُطاع، وتفْرض فَتُجاب، تتوسع من دون قيود، وتتبجح من دون خوف.

من يدفـع الثمن؟

          إنها الشعوب، تدفعه من قُوتِها وحقِّها في حياة مستقرة. تدفعه من حساب خطط التنمية الطموح. تدفعه من حساب صحَّتها وصحَّة الأجيال الجديدة. تدفعه من القلق الذي يُحيط بها، خشية تسرُّب إشعاع من مفاعل أُنشئ لحمايتها من الأخطار الخارجية، فإذا به يشكل خطراً داخلياً قاتلاً، مثلما حدَث في مفاعل تشيرنوبيل السوفيتي بأوكرانيا. وقد أعلنت جريدة هندية، في 17 مايو الماضي، "أن سكان أقرب القرى إلى موقع التفجيرات الأخيرة، يعانون أعراضاً مَرَضية غريبة، عقب التفجيرات مباشرة، وأن 12 شخصاً، يشكُون نزفاً حادّاً من الأنف، وإسهالاً، وتهيّجاً في الجلد، واحمراراً في العينين". هذا هو الثمن: تدمير ثروة وحياة. حياة في فقر، وأمراض وأسقام في حياة. عذاب في الحاضر، وظلام في المستقبل. إنفاق على التدمير، وإمساك عن التعمير!!

موقف الدول العربية

          وردَ ضمن الأخبار اليومية، تحت عنوان "ردود الفعل، العربية والإسلامية، تتصاعد في مواجهة التخطيط النووي الإسرائيلي" خبر مَفاده أنه "في أعقاب تكشّف حقائق حول توجيه إسرائيل ثمانين رأساً نووياً إلى الدول العربية المحيطة، فإن الدول العربية والإسلامية، تخطط لتحرك يشمل توجيه طلب عاجل إلى الوكالة الدولية للطاقة النووية والذرية، لإرسال بعثة تفتيش دولية عاجلة، ومحايدة، إلى إسرائيل للكشف والتحقيق في المعطيات الجديدة، وقياس حجم الأخطار، التي تواجه الدول العربية والإسلامية، من منظومة السلاح النووي الإسرائيلي، وإعداد تقرير عاجل، يُعرض على مجلس الأمن الدولي، مع التحضير لدعوة مجلس الأمن، لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، إزاء التهديد النووي الإسرائيلي، واستصدار قرار ملزِم، يكشف حقيقة الوضع النووي في إسرائيل بغضّ النظر عن رفضها توقيع اتفاقية حظْر انتشار الأسلحة النووية، أو أسلحة الدمار الشامل، والذي يُخرِجها من دائرة الالتزام بالرقابة والتفتيش الدوليين، على أساس أنها دولة غير نووية. وإجراء اتصالات مع واشنطن، في محاولة لتحييدها، على الأقل، إزاء مطالبها المشروعة في الكشف عن حقيقة أخطار السلاح النووي الإسرائيلي، والابتعاد عن استخدام حق الفيتو لتأكيد مصداقية مجلس الأمن، كجهاز دولي، مكلف بحماية السلام والأمن الدوليين، والتحذير من أخطار الصمت، إزاء هذه المعلومات الخطيرة، التي تهدِّد بانفجار المنطقة، بل العالم، في أي لحظة".

          إلى متى ستظل الدول العربية تنادي، وتناشد، وتطالب بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، أو منزوعة من الأسلحة النووية؟ وإلى متى ستظل في الموقف الأضعف تجاه إسرائيل؟ وهل ستظل تستجدي، تصريحاً قوياً من دولة، واجتماع قِمة من أخرى؟ إن أشد ما يُخشَى أن يحرِّك درس الهند وباكستان ، الشعوب العربية، لتضغط على حكامها، مطالبةً بالمِثل! ولا ندري هل سيستطيع الحكام المعتدلون الصمود طويلاً، أمام رغبة الشعوب، التي تنادي برفع الظلم، وإيقاف الاستجداء والمناشدة، ما دامت الاستجابة معدومة؟

          إن أي عادلٍ ومنصفٍ، يقرّ بحقوق الإنسان، ويقر بحق الشعوب أن تحيا حياة حرة كريمة، في عالم يسُوده التعاون والسلام، تسُوده العزة والكرامة، يسُوده عدم طغيان شعب على آخر، ولا تسُوده النعرة العرقية، يُقدَّس فيه الحق والعدل، ويُحترم فيه الأمن والأمان، ويتحقق فيه الاستقرار والطمأنينة ـ هذا العادل ـ لن يرضى بسباق تسلح نووي، يقود إلى الدمار، وإلى حياة الفقر والخراب. فهل تفيق الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية ، القوة العظمى الوحيدة، وتتحرك وتتّخذ من الإجراءات ما يحُول دون حدوث كارثة نووية، لا يعلم مداها إلاّ الله، فتفرض حظر الانتشار النووي، وتُخضع كافة المنشآت النووية للتفتيش والمراقبة، وتعمل على تدمير المخزون النووي؟ وعلى واشنطن، إذا أرادت أن تُعيـد هيبتهـا، وتؤكـد مصداقيتهـا، أن تبدأ بإسرائيل.

فهل تبدأ؟  إنّا لمنتظرون.

------------------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة