الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الخامسة عشرة
بعنوان

القوة تتحدث

نشرت في جرائد "الحياة"، و"الأهرام"، و"القبس"
الاثنين، 13 رجب 1419 هـ، الموافق 2 نوفمبر 1998 م


بسم الله الرحمن الرحيم

          صيف ملتهب، أعقبه خريف ساخن، مملوء بأحداث شتّى. أحداث متفرقة هنا وهناك، تنفلت فيها الأعصاب، وتتوتر العلاقات، فضلاً عن الكوارث البيئية، والمجاعات. وكأنه لا يكفي البشر أخطار الطبيعة، فجلبوا على أنفسهم خطراً على خطر. لا تحاور، ولا تعقّل، لا تدبّر، ولا روية. فالقوي يسعى إلى فرض سلطانه، والضعيف يلتمس الرحمة، ويُناشد، ويدين، ويُبَحُّ صوته، "ارفعوا الظلم عني"، ولا حياة لمن تنادي. القوي يتحرك، ويَفْرِض، والضعيف يَقْبَع ويُرغَم. أربعة أحداث رئيسية، تتشابه مَلامحها، لم يرتفعْ فيها صوتٌ، إلاّ صوت القوة. ما أن يُمس طرفها، حتى تحشد وتُجيش، تهدد وتتوعد، تتصاعد تصريحاتها، تُدير الأزمة بمنطقها، وتفرض الشروط بغطرستها. ولا ترتد إلاّ إذا سمعت صوت قوة أعتى منها، وتُعاد الكَرّة. نعم، إذا كانت القوة لازمة في الأيام السالفة، فقد باتت، الآن، ضرورة مصيرية، لمن يُريد أن يحيا في عزة وكرامة.

ولنبدأ بالأزمة السورية ـ التركية

          فجأة، ومن دون مقدمات، ترتفع أصوات تركية، عسكرية وسياسية: "إن صبرنا على سورية قد نفد". "إننا نحتفظ لأنفسنا بحق الرد على سورية". "إن فشلت المساعي الدبلوماسية فإن تركيا ستلعب اللعبة وفقاً لقواعدها". "إن تركيا في حالة حرب غير معلنة، مع سورية". "إن الجيش التركي، ينتظر الأوامر بعمل عسكري ضد سورية". "تحذير أخير إلى سورية، عليها ألاّ تكتفي بتقديم كلمات جوفاء، فلا بدّ من تعهدات قاطعة".

          أنّى لتركيا هذه التصريحات؟ إنها القوة، منتهزة فرصة قد تبدو مواتية لها. وعندما زمجرت قوة أعتى منها (الولايات المتحدة الأمريكية)، مؤكدةً أن هذا الوقت ليس ملائماً، تراجعت التصريحات النارية، وإذا بالصبر لم ينفد، والحوار أصبح مُرَحَّباً به. ولكن، لم تزل القوة عالية الصوت.

          ماذا فعلت سورية؟ دعت إلى الحوار بدلاً من السلاح، إذ لم يكن أمامها خيار آخر؛ حاولت حشد قوة وراءها، من العرب تارة، ومن الإيرانيين تارة أخرى، وحاولت استنهاض الدب العجوز الذي كَلَّت مخالبه الاقتصادية. ولكن لا العرب يملكون أدوات للضغط القوي، ولا إيران في موقف، يسمح لها بفتح جبهة أخرى؛ فهي مشغولة بمشاكل الداخل وتحولاته، ومشغولة بالأزمة المشتعلة على حدودها مع أفغانستان، ومشغولة بتحسين علاقاتها بالدول الأوروبية، وتغازل، من بُعد، الولايات المتحدة الأمريكية. والدب الروسي، يلعق جراحه، محاولاً التغلب على مشاكله، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مجاهداً للبقاء في دنيا الكبار، ناعياً الأيام الخوالي، أيام كان مُطاعاً مهيباً.

          أمّا تركيا القوةُ الأعلى صوتاً، فإنها تتحدث ويساندها تحالف، تباركه واشنطن ، مع إسرائيل؛ الأشد عداءً منها لسورية، ويدعمها حلف شمال الأطلسي، الحلف العسكري الوحيد الباقي بعد تفتت حلف وارسو، ناهيك أن دجلة والفرات، ينبعان من أراضيها، فيزيدانها قوة إلى قوتها.

          إذاً، تحدثت القوة، وعلا صوتها، فكان الاتفاق في العشرين من أكتوبر الماضي، في مصلحتها، وحصرته في تعهدات والتزامات سورية، أمّا أنقرة فاكتفت بالتزامَيْن: الموافقة على إقامة خط ساخن مباشر، وبحث موضوع الإرهاب في إطار ثلاثي، يضم كلاًّ من تركيا وسورية ولبنان! وما مصير سائر المشاكل المعلقة، وعلى رأسها مشكلة المياه؟ ليس أوانها! وعلى المتضرر، أن يخنع، أو يسعى إلى امتلاك قوة صوتها أعلى.

ننتقل إلى الحدث الثاني: الاتفاق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل

          مثال صارخ على تحدي القوة وجبروتها، ودليل بيِّن على ظلم القوة وافترائها، وبرهان حيّ على ما يطلق عليه "المفاوضات من جانب واحد". فما نسمعه من المسؤولين الإسرائيليين، هو صوت القوة، قوة من؟ قوة إسرائيل العسكرية، التقليدية والنووية، وقوة احتلالها الأراضي الفلسطينية، وقدرتها على إحداث تغييرات في البنية التحتية، وقوة اللوبي اليهودي، في أنحاء العالم، المسيطر على الإعلام والاقتصاد وأجهزة صنع القرار، فضلاً عن قوة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تضع على عاتقها حماية أمن إسرائيل، وتعدها في أولويات أهدافها الإستراتيجية.  

          ما الذي يملكه الرئيس ياسر عرفات ، في المقابل؟ لا شيء، سوى الحق الذي لا تسانده إلاّ حجارة في اليد، إذا استخدمت، عُدَّت إرهاباً. أمّا الدبابات المحيطة بالقرى والمدن الفلسطينية، والرشاشات الموجهة إلى صدور الأطفال قبل الكبار، وتكسير العظام، وتشريد الأيتام، وهدم المباني والمنشآت، وحصار الفلسطينيين العزّل، ومحاربتهم حتى في لقمة عيشهم، فهو دفاعٌ مشروعٌ عن القوة، وتحقيقٌ لأمنها. فكيف نتوقع أن يكون الاتفاق عادلاً؟ ومما يُحْزِن أن يتعرض الرئيس الفلسطيني لانتقادات حادّة ونعوتٍ جارحة. فما أهون، على المنتقدين، كَيْل الاتهامات، بالعمالة والخيانة والتخلي عن القضية؛ من دون أن يقدّم أيٌّ منهم البديل؟ فهل عانى أحدهم الإقامة بالمخيمات شهوراً وسنين؟ وهل بات واحدٌ منهم بلا عمل أو مأوى، يبحث عن طعام له ولأولاده الجياع؟ هل فكر أحد من المنتقدين في عيشة هؤلاء البائسين؟ يُحاصرون براً وبحراً، فمَن ينقذهم؟ المناشدات والاستجداء، مناشدات إسرائيل رفع حصارها، واستجداء السماح للفلسطينيين بالعبور إلى إسرائيل ، للحصول على لقمة تقيم أودهم، وتحفظ جزءاً من كرامتهم!

          وإنني أستعير ـ في هذا الموقف ـ جزءاً مما كتبته في نهاية مقالة "هل من أمل": "إن الرئيس عرفات في موقف لا يُحسد عليه، فهو مُهددٌ من أعدائه، مُنتقدٌ من أنصاره، مُتهمٌ من جيرانه، يُطلب منه تقديم التنازلات، وليس لديه ما يتنازل عنه. إذا وافق على ما يُعرض عليه، قالوا إنه يُفرط في القضية، وإذا عارض، قالوا له: خُذ وطالب، هكذا تكون الإستراتيجية". لم يحدد المنتقدون: ما الأدوات التي يمكن لعرفات أن يستخدمها؟ شريطة أن تكون أدوات عملية، وليست كلمات رنانة وعبارات جوفاء، بلا ملامح ولا خطوات لتنفيذها، أدوات يكون تحقيقها ممكناً، وليس مستحيلاً. فما أسهل الكلام! وما أصعب العمل والتنفيذ! إذاً، في هذه القضية، تتحدث القوة، والعالم يستمع، فلا صوت يعلو على صوتها، وعلى المتضرر أن يخنع، أو يسعى إلى امتلاك قوة صوتها أعلى.

أمّا الحدث الثالث، فكان تحدياً من نوعٍ آخر، قصف الولايات المتحدة الأمريكية ، في العشرين من  أغسطس الماضي، مصنعاً في دولة ذات سيادة، لشكِّها في أنه ينتج مكونات تُستخدم في الأسلحة الكيماوية. هل الشكُّ مبرر لانتهاك سيادة دولة؟ وهل لهذا المصنع دور في الاعتداء على سفارتَي واشنطن، في نيروبي ودار السلام؟ لا أحد يرضى بالإرهاب، فهو عمل تُحرمه جميع الأديان، وتُجرمه جميع الشرائع. ولا أحد يرضى، كذلك، بالظلم والافتراء، لمجرد الشك، الشك فقط!

          لقد صرحت القوة، "ضربنا أهم قواعد الإرهابيين في أفغانستان ، وضربنا، كذلك، منشآت كيماوية في السودان". إذا كان الشق الأول من هذا التصريح، مقبولاً بتحفظ، فهل يُقبل الشق الثاني؟ أليس لهذه الدولة سيادة وكرامة دوليتان، يضمنهما ميثاق الأمم المتحدة؟ ألا يكفي السودان ما يعانيه من أزمات، داخلية وخارجية؟ ولكنها القوة، وما أدراك ما القوة، إذا كانت عظمى، ووحيدة! ماذا كان رد الفعل المقابل: استنكار وإدانة، هتافات وتظاهرات، حرق للأعلام والصور، وسحب للسفراء، ودعوة إلى عقد قمة أفريقية، ودعوة إلى إرسال فريق للتحقق من براءة ما ينتجه المصنع، ومطالبة بالتعويضات المالية. وعندما لم تستجب القوة، وأصمت أذنَيها، وضربت عرض الحائط بكل الاقتراحات والمناشدات، ورفضت إرسال "لجنة لتقصي الحقائق"، طالب السودان على استحياء، بأن تُقر فقط الولايات المتحدة الأمريكية أن قصف المصنع، كان خطأً من جانبها. لماذا؟ لأنه ليس  للسودان خيار آخر، فهو لا يملك أدوات يستطيع الرد بها، ولا يوجد خلفه من يسانده، فإن وجد، فبالتصريحات والخطب، والأماني والتعاطف. ولو علمت القوة أن هناك مَن يردّ عليها، أو يهددها في مصالحها، من دون اللجوء إلى الإرهاب قطعاً، لتغيرت لهجتها وأسلوبها، بل لتغير سلوكها. ولكن، هكذا كان صوت القوة أعلى صخباً، وأشدّ افتراءً، وعلى المتضرر أن يخنع، أو أن يسعى إلى امتلاك قوة صوتها أعلى.

الحدث الرابع، يختلف عمّا سبقه من أحداث، ولكنه يصبّ في الاتجاه عينه. قوة علا صوتها، فتجبرت وهددت، حتى سمعت صوت قوة، من الجانب المقابل، لا تقلّ قوة عنها، فاعتدلت لهجتها، وطالبت بالحوار. فكان توازن القوى، تقليدياً أو نووياً، باعثاً على السعي نحو السلام. إن ما أقصده، هو ما حدث بين الهند وباكستان. لن أعيد ما ذكرته في مقالة "لا عزاء للضعفاء"، ولكني أفكر فقط من منظور القوة، وما يمكن أن تفعله، وما يؤدي إليه توازن القوى.

          ففي الحادي عشر من مايو الماضي، وبعد خمسة تفجيرات نووية هندية، أصاب القوة الهندية الزُهُو والخُيَلاء، والتجبر والاستعلاء، ودعت باكستان إلى مائدة المفاوضات، مرغَمة، ومن دون شروط مسبقة، واشترطت عليها عدم إثارة مشكلة كشمير، على الرغم من أنها أساس المشاكل بينهما، وهددت باحتلال الجزء الذي تديره باكستان من كشمير. فالقوة تتحدث، وأيّ قوة! إنها قوة نووية. وتتابعت تصريحات القوة: "يجب على باكستان أن تطوي صفحة سياستها المناهضة للهند، وما لم تفعل، فسوف تتخذ حكومتنا موقفاً حازماً". "نقول لباكستان كفَى ما كان. ولن نتحمل، بعد الآن، أيّ تدخّل من جانبها في أمر كشمير". كانت تلك التصريحات أولى ثمار القوة الأعلى صوتاً، وأولى نتائج عدم توازن القوى.

          وفي 28 مايو الماضي، سمعنا صوت القوة النووية الباكستانية. فماذا حدث؟ اعتدلت لهجة القوة الهندية، وصرحت، من الفور: "إننا لا نريد شرّاً بباكستان . وليس لها أن تخشى شيئاً من الهند وإننا مستعدّون للحوار معها". وبدأ لقاء القوّتين، تتفاهمان، تتفقان؛ فتوازن الرعب النووي، سيحقق السلام. وآخر تصريحاتهما، "أن الجانبَين يؤكدان التزامهما بخفض أخطار نشوب أي نزاع. ويسعيان إلى  حل جميع القضايا العالقة، ومن بينها قضية جامو وكشمير، بصورة سلمية". وفي هذه الحالة، لا يوجد متضرر، ولا خنوع، فالقوّتان متكافئتان، تسمع الواحدة منهما الأخرى، وتعي ما تقول.

          إذاً، ما العمـل؟     

          السبيل واضح، يعلن عن نفسه: امتلاك القوة ضروري، وتوازن القوى حتمي. فالقوة، بشتى وجوهها، هي القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، وإليهما تستند القوة السياسية؛ إذ السياسة بلا قوة، موسيقى بلا آلات، كما قال فردريك الأكبر، والاقتصاد بلا قوة تعصمه، يظل مهدداً، يستجدي حماية الآخرين.    

------------------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة