الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة السادسة عشرة
بعنوان

عبقرية الزمان والمكان

نُشرت في جريدة "الحياة"
الإثنين، 22 شوال 1419 هـ، الموافق 8 فبراير 1999 م


بسم الله الرحمن الرحيم

انقضَت عدة أسابيع في التنفيذ، بعد عدة أشهر في التخطيط، احتفالاً بمرور مائة عام على استعادة مدينة الرياض التي كانت اللبِنة الأولى في تأسيس المملكة.

سعدنا بهذا الاحتفال، الذي توّج جهود كافة العاملين، الذين اجتهدوا في إظهار المناسبة في أبهى حُلة، وأكمل مظهر.

لن أعيد ما كُتب، وما عُرض، وما شوهد، فما أكثره. وما أكثر ما فيه من إطراء ومديح، وتمجيد وتصريح. والجميع على حق؛ فالحدث يستحق. وما أُنجز في مائة عام، جدير بالدراسة والاهتمام. وما انتهجه الجدّ العظيم، وسار عليه الأبناء العظام، يستحق الفخر والإعجاب. ولكن، هل الهدف من إحياء هذه الذكرى، هو الذكرى فقط؟ أو أن الهدف الأسمى، يتعدى هذا الإحياء؟

إن الهدف، من وجهة نظري، هو دراسة ما حققه هذا القائد، وتحليله في إطار البيئة، الدولية والإقليمية والمحلية، وقتها، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتِقنياً. ثم نستنتج الدرس ونَعِيه، ونخطط للاستفادة منه، في ظل ظروف الحاضر ومعطياته، لتحقيق مستقبل أفضل لبلدنا وأُمَّتِنا.

إذا أردنا أن نستعرض تاريخ الملك عبدالعزيز، الذي هو تاريخ الدولة السعودية الثالثة، سنجد الإنجازات في جميع المجالات، إنجازات ضخمة، مشرِّفة. ويزيدها قيمة، حدوثها في بيئة، تختلف اختلافاً بيِّناً عن بيئتنا الحالية. وأعتقد أن الباحثين، الذين أثْروا هذه المناسبة بأبحاثهم، قد تعرضوا لهذه المفارقة. فمِن السهل التهوين من أي عمل أو انتقاده، مهما علت منزلته، عند دراسته في ضوء معطيات العصر. ولكن، حينما نعيده إلى الظروف الحقيقية، التي حدثَ فيها، تظهر قيمته وعظمته.

ولنضرب مثلاً على ذلك: يحلو، أحياناً، لبعض المحللين العسكريين، انتقاد قرارٍ، اتخذه أحد القادة في معركة من المعارك، ويصبون جام غضبهم على هذا القائد. بينما، لو تخيّل هؤلاء ظروف المعركة الحقيقية، من نيران من جميع الاتجاهات، وخسائر في الأرواح، ودمار في الأسلحة والمعدات، وتقدّم وانسحاب للقوات، ومواقف قتالية، تتغير بين الفينة والفينة، لأدركوا الواقع، ولَعَدَلوا في أحكامهم.

ولنناقش بعضاً من المواقف في حياة زاخرة بالأعمال المجيدة.

          أولاً: لو اكتفينا بالقول إن الملك عبدالعزيز وَحّد معظم شبه الجزيرة العربية، لَما أعطينا هذا الحدث حقّه، من التقدير. فقد يبدو حدثاً عادياً، لأنه بعد أن فتح الرياض ، أصبح له قوة يخشاها باقي القبائل، فآثرت السلامة وانضوت تحت لوائه. ولكن، عندما نقول إنه فتح الرياض ، وعمره واحد وعشرون عاماً، وأخضع نجداً، و الأحساء التي كان يحكمها حاكم عثماني، واستولى على منطقة عسير وجبل شمّر، وبسط سلطانه على الطائف ، والأماكن المقدسة في الحجاز، وأحبط محاولة انقلاب زعماء الإخوان. وعندما نستعرض القوى السائدة، آنئذ، وأطماعها، محلياً وإقليمياً ودولياً، وعندما تثبت الأحداث أنه حوّل المجتمع البدوي إلى دولة حديثة. عند ذلك، يبرز هذا الحدث في حجمه الذي يستحقه، ويثبت أنه من أعظم الأعمال التي تحققت خلال هذا القرن. ولنا أن نتخيل شكل شبه الجزيرة، لو أن توحيدها لم يتحقق: كيانات هزيلة، متناحرة، تعوم في أنهار من الدم، وفي بحار من الاتهامات المتبادلة. كيانات متخلفة، ليس لها وزن ولا قيمة، تعيش على هامش الحياة، منفصلة عن قضايا أُمَّتها العربية والإسلامية.

          ثانياً: عندما نقول إن الملك عبدالعزيز، حقّق الأمن في شبه الجزيرة، فإننا لا نعطي هذه المأثرة حقها، فقد يُتصور أن تحقيق الأمن، أنجز بقانون، وجُنّدت الشرطة لتنفيذه. ولكن، عندما نقول إن الأمن، تحقق لقوافل الحجاج، التي تجيء من الأمصار المختلفة، قاطعة مئات الأميال، في الصحراء، وبين القبائل المختلفة، التي كانت تتلمس لقمة العيش. قوافل تُهاجَم، على طول خط سيرها، واعتداء على الأرواح والحرمات سائد، والنهب والسرقة أهون الأضرار. كان الحجيج يودِّعون الأهل، الوداع الأخير. وإذا عاد أحدهم، عُدّ محظياً؛ فالذاهب إلى الحج مفقود، والعائد منه مولود. عندما نقول ذلك، سيقتنع القارئ بأهمية تحقيق الأمن والأمان، للشعب ولضيوف الرحمن، وترسيخ الاستقرار، وفرض هيبة الحكم، في دولة مترامية الأطراف.

          ثالثاً: إذا قلنا إن من إنجازات الملك عبدالعزيز القضاء على حركة انقلاب الإخوان عليه، لظن القارئ أن الأمر لا يتعدّى محاولة جماعة خارجة على كيان الدولة، مما دعا الملك إلى التصدي لها، والقضاء على تمردها، وبذلك، نكون كمن بَتَر الحدَث، ولم يصوره في أبعاده الحقيقية، ولما أُدركت حكمة الملك. أمّا لو استعرضنا تاريخ الإخوان، لرأينا كيف أن الملك نفسه، هو الذي أنشأ هذا التنظيم ورعاه، وعدّه قوة تجاهد في سبيل الله، وترفع راية التوحيد، وهو ما قامت عليه الدولة السعودية، منذ أن تعاهد سلفنا، الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب، وتمكّنا بالقرآن والسيف، من إعادة الناس، في وسط شبه الجزيرة، إلى جادة الصواب، حقيقة الإسلام وجوهر التوحيد، وتأسيس الدولة السعودية الأولى. لقد أبلت الحركة بلاءً حسناً، في بعض معاركها، وكان يسعها الاستمرار، لولا تطرّفها، ومحاولة جرّ الملك وراءها في هذا التطرف، حين طالبته بمعاداة الشرق والغرب، وعدم إدخال وسائل الحياة الحديثة إلى البلاد، وبدأت تتدخل في شؤون الحكم، اعتماداً على قوّتها ونفوذها، واعتقاداً منها، أن الملك عبدالعزيز، لن يجرؤ على معارضتها. هنا، كان القرار الصعب. إمّا الدفاع عن وجود دولة عصرية، ذات مقومات ومبادئ وأهداف، أو الخضوع للأهواء والرغبات. فاختار القائد الخيار الأول، وأثبتت الأحداث، أن مواجَهة الحركة كان عملاً إستراتيجياً، أكثر من كونه عملاً عسكرياً، لإرساء دعائم الدولة السعودية الحديثة.

          رابعاً: عندما نقول إن الملك عبدالعزيز ساند القضية الفلسطينية، ولم يفرّط فيها، فإننا لم نفِ الرجل حقّه. فقد يُظَن أنه أدان واستنكر، وحارب بالشعارات والخُطب. ولكن، عندما نقول إنه منذ اللحظة الأولى، وعى الخطر المحدق، وكان له نظرة استراتيجية؛ وهذا ما يفرق بين زعيم ورئيس. فإننا نكتشف البعد السياسي لفكر القائد. إذ إنه تبادل الخطابات مع الرئيس روزفلت، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، شارحاً، بالمنطق، حقائق القضية. وكاد ينجح، لولا تقاعس الرئيس ترومان، وعدم التزامه بما اتُّفق عليه مع الرئيس السابق. وعلى الرغم من ذلك، استمر يطلب من الرؤساء الأمريكيين، "عدم الكيل بمكيالَين"، وعدم النظر إلى الأمور بمعياريْن، لأنه علِم، بنظرته الثاقبة، أن مستقبل القضية ومفتاحها، في يد الولايات المتحدة. ناهيك أنه كان الوحيد،الذي خالف القادة العرب، ممَّن تحمسوا لإرسال الجيوش العربية، التي لم يكن لديها السلاح أو العتاد، أو المستوى التنظيمي، التي تؤهلها لخوض غمار الحرب. فنادى بعدم إرسال الجيوش النظامية إلى فلسطين، حتى لا تكون مدعاة لتدخّل القوى الأجنبية، إلى جانب الصهاينة المغتصبين، وارتأى الاكتفاء بإمداد الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، بالمال والسلاح والعتاد، وتركهم، بعد دعمهم، يدافعون عن أرضهم ووجودهم. حتى يبدو الأمر دفاعاً شرعياً عن حقوق ووجود. وعلى الرغم من عدم الأخذ برأيه، إلاّ أنه أرسل وحدات سعودية، ضمن الجيش المصري، وأرسل المتطوعين السعوديين، وساند الحملة العسكرية، بكل ما تيسَّر له من موارد. نقول: لو تحققت هذه الرؤية الإستراتيجية، هل سيكون الوضع أسوأ مما هو عليه الآن؟ لا أعتقد، ويكفينا ما تحقق في عام 1948، من ترسيخ للتقسيم، وتوسّع أكثر، ثم هزيمة 1967، وما نعانيه منها، وسنعانيه، لعدة عقود قادمة. إذا وضعنا مقولة إنه "ساند القضية الفلسطينية"، في وضعها وشرحها الصحيحَيْن، ألا يدعونا ذلك إلى التبصر في حكمته الإستراتيجية؟

          خامساً: نسمع الآن مصطلحات سياسية عديدة، أهمها توازن القوى وتوازن المصالح، وكيف أنه عندما يصعب تحقيق الأولى نسعى إلى إثبات الثانية. ولو عدنا إلى الماضي، واستعرضنا الأعمال السياسية للملك عبدالعزيز، وكيف قاد الدولة، خلال صراعَيْن دوليَّين، لأدركنا حكمته وحنكته، وحسه السياسي ووعيه الدبلوماسي، شريطة وضع كل حدث في بيئته الحقيقية، لتظهر عبقرية هذا القائد. كان الصراع الأول، هو نشوب الحرب العالمية الأولى، ووقوع شبه الجزيرة العربية في بؤرة الأحداث. وعلى الرغم من ذلك، خرج منها، غير متأثر بما حدث بين المتحاربين، محققاً خطوات مهمة على طريق تأسيس الدولة. والصراع الثاني، كان الحرب العالمية الثانية، فاختار الحياد، ولم يدفع بالبلاد شرقاً ولا غرباً، وكان يحتفظ بممثلين عن الدول المتحاربة، في جدة، مقيماً علاقات ودية بجميع الأطراف. فخرجت المملكة من دون أن تتعرض لاحتلال، أو تقع في دائرة نفوذ. هكذا يكون القائد، الذي لا يورد دولته موارد الهلاك، تحت تأثير حماسة زائدة، أو مشاعر شخصية، أو حباً للذات، أو استخداماً للشعارات الجوفاء.

          إن دولة رفعت كتاب الله وسنَّة رسوله، دعوةً وجهاداً، وإصراراً من الجدِّ والأبناء، على عدم الحِيدة عن طريق الحق ومنهاج العدل، وأن تكون دولة عصرية الإمكانات، تواكب العِلم، وتسخّره خدمة للدين والمجتمع، تدافع عن المظلوم، وتردّ المعتدي، لا أعتقد أن دولة مثل هذه، يمكن أن تخنع أو تُذَل، والله ناصرها ـ بمشيئته ـ إلى يوم الدين.

------------------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة