الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة السابعة عشرة
بعنوان

ألا تستحق كلمة إنصاف؟

نُشرت في جريدة "الحياة"
الأربعاء، 21 ذو الحجة 1419 هـ الموافق 7 أبريل 1999 م


بسم الله الرحمن الرحيم

          حينما يسيء المرء نقول له أسأت. وحينما يُحسِن، يجب أن نقول له أحسنت. هذا هو الخلُق، وذاك هو الإنصاف. وما ينطبق على الأفراد، ينطبق، بداهة، على الدول. فإنْ أخطأت دولة، تبارى الجميع في إدانتها، وسارعت التظاهرات تحرق أعلامها، وانطلقت الألسن بكل الكلمات في معجم الهجاء ضدها. فلماذا لا نفعل العكس، حينما تُحسِن دولة، دفاعاً عن مظلوم، أو انتصاراً لحقٍ مهضوم؟

          أقدم حلف شمالي الأطلسي، برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ، على قصف جمهورية الصرب، مساء الأربعاء، 24 مارس الماضي، بعد تردد استمر عدة أشهر. عملية تأديبية، لإجبار الرئيس الصربي على وقف الفظائع، التي يرتكبها الصرب، ووقف عمليات الإبادة العرقية لألبان كوسوفا، وتوقيع اتفاقية السلام، التي أعلن ممثلو المسلمين في كوسوفا قبولهم شروطها، بعد الضغط عليهم من كل جانب، وتنازلهم عن كثير من حقوقهم وآمالهم. وانقسمت الدول ـ كالعادة ـ إزاء هذه العملية، إلى معارضة، ومعارضة بشدة، ومتحفظة، ومؤيدة على استحياء. ولم يؤيد العملية، صراحة، سوى الدول التي اشتركت فيها. فالدول التي عارضت، لم تقدم البديل، الذي ينقذ رقاب الأبرياء من الجلاّد الصربي، واكتفت بالمناداة بأهمية الحل السلمي، وتناست الفترة الماضية، التي ضاعت بين التدليل والترغيب، والتوسل والرجاء لهذا الجلاّد، بينما هو ينفّذ أفظع الجرائم وحشية في تاريخ البشرية البائسة. وأمّا الدول التي أيدت على استحياء، فكانت تخشى أن تقلّص هذه العملية دور الأمم المتحدة، وتهدّد الشرعية الدولية، وتفرض الهيمنة الأطلسية، في ظل النظام العالمي المضطرب، في جميع نواحيه. فهي تؤيد بشدة، بينها وبين نفسها، من دون إعلان، خشية أن يصبح مثل هذه العملية سابقة، يُلجأ إليها عند حدوث أزمات مشابهة. ولم تخرج دولة واحدة عن هذا التقسيم، لتقول لِمَن أَحسَن، أحسنت، ولِمَن أخطأ، أخطأت.

          فإذا قارنا موقفَي روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ، ألا نجد اختلافاً بَيِّناً بينهما؟ ألا تستحق الأولى أن نقول لها أسأتِ، والثانية أحسنتِ؟ نقول للأولى أخطأتِ، لوقوفك في صف الصرب، بلا مواربة، تمدّينهم بالأسلحة الحديثة، مخاِلفةً القرار الذي اتخذه مجلس الأمن، إبّان اشتعال الحرب في البوسنة والهرسك، في محاولة لكبح جماح الوحشية الصربية، ومتنكرةً لكل مبادئك، التي ناديت بها، ونادى بها من قبْلك الاتحاد السوفيتي (السابق)، من محاربة للعنصرية والفاشية، ودعوة إلى الإخاء الأممي والإنساني، وتأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفع شعار الحرية والعدالة والحق، ونصرة المظلوم! أين هذه المبادئ الآن، من انحياز روسيا، الرسمي والشعبي، إلى الجانب الصربي، غير مقيمة أي وزن للمشاعر الإنسانية، أو مشاعر الدول، العربية والإسلامية؟

          ربّ قائل، إن للولايات المتحدة الأمريكية مصالح عديدة في اتّباعها هذه السياسة، ولولا ذلك، لَمَا تحركت. والإجابة ـ ببساطة شديدة ـ وما الذي يضيرها في ذلك؟ أليست المصالح، هي التي تحرك الإنسان الفرد، قبْل أن تحرك الدول والشعوب؟ هل ثمة دولة واحدة، تتحرك من أجْل مصالح الآخرين فقط؟ أمَا وَعَيْنا أن الصداقة مؤقتة، والعداوة مؤقتة، والمصالح المتبادلة المتوازنة هي الدائمة؟ ولو أن واشنطن لم تبادر إلى قيادة حلف شمال الأطلسي، في محاولة لوقف الممارسات الصربية، التي يندى لها جبين الإنسانية، ترى ما ستكون النتيجة؟ استمرار المقابر الجماعية، والتعذيب والتنكيل، وإحراق المنازل أو هدمها، وانتهاك الحرمات والأعراض، وتشريد شعب، وإرغامه على الفرار، للنجاة من سكين الجزّار، الذي يصرّ على تغيير الواقع الديموجرافي، ويسعى إلى إبادة المسلمين، وتطهير كل الأقاليم منهم، وجمْع الصرب كلهم أجمعين، عسى أن يحقق حلمه في خلْق صربيا الكبرى.

          لقد تركت الولايات المتحدة الأمريكية المسرح، من قبل، للدول الأوروبية، علّها تجد حلاًّ لمأساة البوسنة والهرسك. ولكنها لم تُحل. حاولت تلك الدول التدخل، لوقف ورثة الاتحاد اليوغوسلافي، من الصرب، دون اللجوء إلى الأعمال الوحشية والانتقامية، ضد سكان البوسنة والهرسك، من المسلمين والكروات، ففشلت. هددت بالعقوبات الاقتصادية، فلم تُجْدِ. هددت باستخدام القوة، ولم تفعل. لجأت إلى الأمم المتحدة، وأخفقت كلتاهما. صدرت قرارات الجمعية العامة، وقرارات مجلس الأمن، فلم يحفل بها أحد؛ والصرب ماضون في تنفيذ مخططاتهم، حتى أصبح الموقف مخزياً، وأمسى نقطة سوداء في تاريخ البشرية. فالدول تشاهد هذه المجازر، وتندد وتدين، وتساعد قدر استطاعتها؛ إذ الدول الأوروبية المحيطة بالصرب، لا تسمح لأحد بالتدخل. فضلاً عن مساندتهم من قِبل الدولة، التي كانت، إلى الأمس القريب، دولة عظمى، تشجعهم على العدوان، وتمدهم بالسلاح والعتاد، ولا تتردد في التهديد، إنْ لوّح أحد باستخدام القوة، لإيقاف المهزلة الإنسانية؛ وما أسهل استخدامها حق النقض لوقف فاعلية مجلس الأمن! ولم يتوقف هذا المسلسل اللإنساني، إلاّ بالتدخل الأمريكي الجادّ، الذي انتهى إلى توقيع اتفاقية دايتون، التي مثّلت الحد الأدنى من مطالب سكان البوسنة والهرسك، من المسلمين والكروات.

          نعم، للولايات المتحدة الأمريكية مواقف وتصرفات، لا تتوافق مع مصالح الدول العربية والإسلامية، خاصة انحيازها المطلق إلى جانب إسرائيل . وهي مواقف تعلن تلك الدول استياءها منها. وما برحنا الآن، نقول إن مثل هذا الانحياز، يضر بالمصالح الأمريكية. ونأمل أن يأتي اليوم الذي يفيق الشعب الأمريكي فيه، بجميع طوائفه، مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، من هذا الوهم، ويعرف أن من مصلحته التمسك بتحقيـق العدل، ورفـع الظلم، وعدم الانقياد الأعمى لكل ما تقوله تل أبيب. ولكن هذا الانحياز، لا يمنع أن نقول ل واشنطن وحلفائها، أحسنتم، إذا أحسنوا، وحققوا ما عجزت دول كثيرة عن تحقيقه.

          والسؤال، هل الخطة التي وضعت لهذه العملية، ستحقق الأهداف المعلنة؟ لقد حدد الرئيس الأمريكي، هدفَين للحملة الجوية، هما: وقف الاعتداءات الصربية على المدنيين، ذوي الأصل الألباني، الذين هم غالبية سكان كوسوفا، وإجبار الرئيس الصربي على توقيع معاهدة السلام. والثاني، إذا لم يتحقق الهدف الأول، فهو الحد من قدرته العسكرية على شنّ الحرب على أهالي الإقليم.

          كذلك، أعدّ قادة حلف شمالي الأطلسي خطة، ذات ثلاث مراحل: الأولى، إسكات وتدمير وحدات الدفاع الجوي ومراكز القيادة والاتصالات الصربية. الثانية، إضعاف البنْية الأساسية العسكرية الصربية، في كوسوفا ومحيطها. الثالثة، تأتي بعد نجاح المرحلتَيْن الأولى والثانية. وتدعو، بعد استعداد الرئيس الصربي لقبول التسوية السلمية، وبعد أن تفقِد آلته العسكرية القدرة على الانتقام أو الاضطهاد ـ إلى إرسال قوة أطلسية للمحافظة على السلام في الإقليم. أي أن الخطة تعتمد، أساساً، على الضربات الصاروخية والغارات الجوية. فهل تستطيع الحملة الجوية تحقيق الهدفَين، اللذَين أعلنهما الرئيس الأمريكي؟ فلنرجع إلى الوراء ثماني سنوات، ولنتحرّ ما إذا كانت الحملة الجوية لقوات التحالف، هي التي أرغمت القوات العراقية على الانسحاب من الكويت، أو أن الهجوم البري، هو الذي ثبّت النتائج النهائية على أرض الواقع؟ فمما لا شك فيه أن الحملة الجوية كانت جدُّ مؤثرة، وقلّصت الخسائر إلى حدٍّ كبير. ولكن ما لم يُثَبّت النصر بجنزير دبابة، أو قَدَم رجُل المشاة، فإن النصر يصبح مدعاة للشك، والادعاء بعدم حدوثه.

ولعل بعض التساؤلات، التي قد تراود المتشككين في صدق الحلف الأطلسي وجديته، تتمثل في الآتي:

  • أَلَمْ تكن الحملة الجوية ذريعة مواتية للقوات الصربية، لتشديد حملات الانتقام والوحشية؟
  • أَلَمْ تسهم في إسراع حملات تفريغ الإقليم من ساكنيه؟
  • أَلَمْ ينتقل مجرم الحرب، المعروف باسم "أركان"، إلى كوسوفا، مع رجاله، يمارسون القتل والنهب وانتهاك الحرمات، بدلاً من أن يقدَّم إلى المحاكمة في لاهاي؟
  • أَلَمْ تَزِد الحملة من صلابة الرئيس الصربي، والتفاف الشعب حوله أكثر وأكثر، وتحوله إلى بطل قومي؟ أَلَمْ تتحول المعارضة الداخلية لنظام حكمه إلى مؤيدين لتطرفه، بل فاقوه تطرفاً؟
  • أَلَمْ يهدد سلوبودان ميلوشيفيتش بجعل الإقليم فيتنام جديدة، إذا أقدم الحلف الأطلسي على إقحام قواته البرية، حماية للمضطهدين والفّارين؟
  • أَلَمْ يراهن هذا الرئيس على إطالة زمن التدخل العسكري، على أمل إحداث الفرقة بين الشركاء، وتجميع الأصوات المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية، مثل العراق وغيره، وإثارة النعرات الدينية؟
  • أَلَمْ تكن هذه الوسائل هي نفسها، التي راهن عليها الرئيس العراقي، من قبْل؟
  • أَلَمْ تعِ واشنطن أن الحكّام الدكتاتوريين، لا يهتمون إلاّ بسلامة أنفسهم، وأن التفكير في الشعب وأمنه وأمانه، هو آخر ما يخطر على بالهم؟

أسئلة كثيرة ستجيب عنها الأيام القليلة القادمة.

          وسؤالنا: هل إذا نجحت الخطة الأطلسية في تحقيق أهدافها، سيتحقق السلام في البلقان؟ أو ستكون هدنة لجولة أخرى أشدّ وأقسى؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من العودة إلى الجذور التاريخية، لقرون خلَت، لنتعرف نشأتها، وأسبابها، وتطورها، وهذا عملٌ يستدعي مقالات شتّى.

          وقُصَارَى القول، ألا ينبغي أن يُقال للأمريكيين وحلفائهم في حلف شمالي الأطلسي، المشاركين في العمل العسكري، أحسنتم، وواصلوا حملتكم، لرفع الظلم، وإقرار العدل، ولا تسمحوا للرئيس الصربي بالخروج منتصراً أو منتشياً، ولو معنوياً، حتى لا نقول لكم لقد أخطأتم؛ إذ بتدخلكم ازداد الوضع سوءاً، وحولتم شعب الإقليم إلى لاجئين، وزدتم المخيمات أعداداً أخرى!

          كما نقول للولايات المتحدة الأمريكية، متى تتخلصين، وأنت القوة العظمى الوحيدة، من تبعيتك لإسرائيل ، وتأييدها، ظالمة كانت أو ظالمة جداً؛ فهي لم تكن مظلومة في يوم من الأيام، حتى نقول لك ألف مرة أحسنتِ، أحسنتِ؟

--------------------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة