الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة السادســة
بعنوان

شكراً ... نتانيـاهو

نُشرت في جريدة "الحياة"
السبت، 27/11/1417هـ الموافق 5/4/1997م


بسم الله الرحمن الرحيم

يحار المرء كثيراً عند تحليل أفعال بعض السياسيين أو تفسيرها، ويحار أكثر عندما يتساءل: هل هذه الأفعال مقصودة أو عشوائية؟ وهل هم مدركون، حقاً،;لخطرها على مصالح بلادهم؟ أو أنهـم قصيرو النظـر يضحـون بـ "الإستراتيجية" في سبيل إنجاح "التكتيك"؟ والمثال البعيد على ذلك، موقف الرئيس جورباتشوف عندما كان ممسكاً بزمام قيادة إحدى القوتين العظميين في العالم، ونادى بإصلاحاته الشهيرة وأصرّ عليها. هل كان يعلم أنها ستؤدي إلى تفتيت الاتحاد السوفيتي وتحوله إلى دول تتناحر في ما بينها، وتستجدي لقمة العيش من غريمتها؟ هل كان يعلم أن إصلاحاته ـ بصرف النظر عن صوابها أو خطئها ـ ستؤدي به إلى زاوية الإهمال والنسيان؟  أمّا المثال القريب فهو موقف رئيس وزراء إسرائيل الذي يُصرّ على تنفيذ سياسة التوسع والهيمنـــــة، وسياســة "الأمن المطلــــــق" و "الاستقرار الكامل" لإسرائيل مقابل "اللا أمن" و "اللا استقرار" لمن عداها، واستخدامه الجرّافات لغة للحوار، والمماطلة أسلوباً للمفاوضات، والدبابات سلاحاً للتهديدات. فهل يعلم أنه بسياسته هذه أسدى بعض الخدمات إلى القضية الفلسطينية وإلى الأمة العربية؟ خدمات وجب الشكر عليها.

فقد نجحتْ سياستك في توحيد الفصائل الفلسطينية، أحزاباً وحركات وجبهات، وجعلتهم يقفون وقفة رجل واحد في مواجهة سياسة القهر والإذلال، وزيادة النشاط الاستيطاني المحموم، وتغيير الديموجرافية. وأعطيتَ للتشدد ذريعة، وللمتطرفين حجة، و للعنف مبرراً.

ونجحتْ سياستك في إيقاف الهرولة إلى التطبيع، والترحيب بالمشاريع الاقتصادية المشتركة، وفتح الحدود على مصراعيها أمام الوفود الإسرائيلية. كما نَجَحَتْ في إيقاف الاتجاه الرامي إلى إنهاء المقاطعة، وأصابتْ الدول العربية جميعها بالإحباط، والاقتناع بأنها تتجه إلى سراب. وللمرة الأولى منذ زمنٍ نسمع توصيات قاطعة بوقف التطبيع مع إسرائيل وإغلاق المكاتب الدبلوماسية، واستمرار التزام المقاطعة الاقتصادية، وتعليق المشاركة العربية في المفاوضات متعددة الأطراف. لقد ساعدتَ، من دون أن تدري، على تحقيق خطوة أولية، مهما كانت متواضعة، على طريق إعادة التضامن العربي.

وكانتْ سياستك أحد الأسباب الرئيسية في محاولات التقارب بين بعض الدول العربية وإيران وللمرة الأولى نسمع منها بعض الأصوات المعتدلة، ونرى بصيصاً من الأمل في علاقات يمكن أن تقوم على التضامن والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ونبذ استخدام القوة أو التهديد بها، والعمل الجاد من أجل بناء الثقة، ووضع العلاقات في مسارها الصحيح سياسياً وإعلامياً.

وأشعرَتْ سياستك المسلمين في أنحاء المعمورة، شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، بخيبة الأمل في إمكان تحقيق سلام في ظل الوضع الراهن، فهي سياسة متغطرسة، متلفِّعَة بسلاح تقليدي وآخر نووي، داخل عباءة قوة عظمى هي سبب وجودها وتجبرها، ويمارسها مسؤولون يتجرأون بالسباب والقذف، والتهديد والوعيد، غير مقيمين وزناً للخلق الحسن أو الأعراف الدبلوماسية. في ظل هذه الظروف كافة، اجتمع مؤتمر القمة الإسلامي في دورته غير العادية في إسلام أباد، وأصدر توصياته، التي تمثل الحد الأدنى لما يجب إصداره، على أمل أن تُصحح الولايات المتحدة من سياستها ولا تزن الأمور بميزانيْن، وأن تَرْجِع إسرائيل عن التمادي في غيّها، وتعرف أنه لا سبيل إلى تحقيق السلام إلاّ بالانصياع إلى تنفيذ القرارات الدولية، وتحقيق السلام العادل، وليس السلام الآمن فقط.

ونجحَتْ سياستك في إثارة استياء معظم مسيحيي العالم، في الدول العربية وغير العربية على السواء، واستثارتهم للوقوف إلى جانب الحق والعدل، وأَشْعَرَتْهم أن الخطر الصهيوني قادم لا محالة، ولن يفرّق في طريقه إلى تحقيق مصالحه، بين مسلم ومسيحي، فَعَلَتْ الأصوات وصَـمّت الآذان. فمن شجب يصدر من البابا يوحنا بولس الثاني، يؤكد فيه رفضه القرارات الخطيرة التي اتخذتَها إسرائيل لأنها تُلحق أبلغ الضرر بعملية السلام في الشرق الأوسط، إلى رسالة باسم مجلس الكنائس العالمي يُعرب فيها عن استنكاره وقلقه العميق للتطورات الأخيرة في القدس الشريف والضفة الغربية، إلى إدانة الكنيسة الإنجيلية ــ اللوثرية المتحدة في ألمانيا قرارات الحكومة الإسرائيلية، وأخيراً إلى هجوم حاد من البابا شنوده، بطريرك الكرازة المرقسية في مصر، على إسرائيل لتحديها العالم العربي ضاربة عرض الحائط بالاتجاه العالمي الذي يؤيد السلام.

وأثبتَتْ سياستك للهيئات الدولية والمنظمات العالمية كافة، بدءاً بقمة الدول الصناعية السبع الكبرى في ليون، ومروراً بقمة الاتحاد الأوروبي في فلورنسا، والقمة الإفريقية في الكاميرون، أن عليها مسؤولية كبرى تجاه رفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، وعدم الانصياع لإسرائيل في حججها أو ادعاءاتها القائمة على الخداع وتزييف الحقائق. كما أقنعتْ سياستك هذه الهيئات والمنظمات بضرورة وقوفها إلى جانب الحق، وضرورة تصحيح مسيرة السلام واستئنافها، على أسس من العدل، مع سورية ولبنان، وضرورة سعيها إلى وقف الإرهاب الإسرائيلي، حتى يتوقف الجهاد الفلسطيني واللبناني والسوري.

وأدّت سياستك إلى تعاطف العالم مع قضيتنا، فالفرق شاسع بين موقف دول العالم في العام الماضي، عند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار غير ملزم في قضية عدوان واضح كل الوضوح، عندما نفذت إسرائيل عملية "عناقيد الغضب" ومجزرة "قانا"، حين امتنعت (65) دولة عن الاقتراع، وتغيبت (50) دولة أخرى عن التصويت كلية، وبين موقف هذه الدول اليوم عندما أجمعت على إدانة إسرائيل لإقدامها على بناء مستوطنة على جبل أبو غنيم. وفرق آخر، بين مجلس الأمن وهو عاجز بالأمس، عن الاتفاق على مشروع لا يدين، وإنما يوجه اللوم فقط إلى إسرائيل ، لارتكابها مجزرة "قانا" وبين موقف الإجماع الكامل لأعضائه اليوم وهم يصدرون قرارين ينصان على إدانة واضحة لإسرائيل، عدا بالطبع "فيتو" الولايات المتحدة، التي تنصر إسرائيل ظالمة أو ظالمة جداً، لأنها لم تكن في يوم من الأيام مظلومة.

ولا تنسَ أنك أسأت بسياستك هذه إلى الولايات المتحدة أكبر إساءة، أسأت إلى هيبتها، وشككت في حيادها، وخيّبت الآمال فيها، بعد أن اكتسبت سمعة عالمية لم تحظ بمثلها في تاريخها، عندما ناصرت الحق ووقفت ضد الأطماع، وساعدت على تحرير دولة الكويت الشقيقة. فقدّرت الدول موقفها، وانفتحت القلوب لها، واستبشر العالم بنظام دولي جديد أكثر عدلاً واستقراراً، أكثر أمناً وأماناً. ولكن للأسف، تنساق الولايات المتحدة وراءك، وتضع كل ثقلها خلفك، وتضحي بمصالحها من أجل تأييدك، لعلّك تعود إلى جادة الصواب. إن سياستك تُعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر، ليس في الدول العربية والإسلامية فقط بل في العالم أجمع. ولا أظن أن غالبية الأمريكيين ذوي الديانة اليهودية، يفضلون مصالح أي دولة أخرى على مصالح دولتهم الأم، مهما كانت هذه الدولة، حتى إذا كانت إسرائيل نفسها. وتأكيداً لهذه الحقيقة، فقد ظهر ولاء الأمريكيين اليهود للولايات المتحدة بشكل واضح في حادثة جوناثان بولارد، اليهودي الأمريكي الذي جندته إسرائيل إذ صرح جيكوب نيوزنر، أحد زعماء اليهود في الولايات المتحدة، بأن إسرائيل بتصرفاتها تُعرّض وضعهم داخل مجتمعهم للخطر. وأن يهود أمريكا يؤمنون بـ "أرض ميعاد" واحدة هي الولايات المتحدة، وأن عاصمتهم ستظل واشنطن وحسب. إن سياستك ـ بالتأكيد ـ ستجعل الولايات المتحدة، عاجلاً أو آجلاً، تفيق لتدرك أين مصالحها؟ ومن يدمرها؟ ولتعرف أن التحيز الكامل والانصياع المستفز إلى الرغبات الإسرائيلية يحرج دولاً، ويبعد أخرى، ويُـضعف الأمل في دور أمريكي محايد. وأمام الرئيس الأمريكي الذي يجتمع معكم يوم الإثنين فرصة ـ ربما تكون الأخيرة ـ ليثبت هل الولايات المتحدة وسيط شريف محايد، كما تقول هي، أو إنها منحازة كلياً إلى إسرائيل كما يقول العرب.

وعلى الرغم من أن ما تم حتى الآن، من استنكار وإدانة، وشجب وشعور بالقلق وتهديد بالمقاطعة ووقف للتطبيع، وعملية هنا وأخرى هناك، لا يرقى إلى العمل الصحيح الجاد الذي نصبو إليه وتفهمه إسرائيل، إلاّ أنها بداية على كل حال قد تكون مشجعة. لذا، نقول مرة أخرى، شكراً لك، ونأمل أن تستمر في سياساتك لتحقق لنا المزيد ...

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة