الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الثامنة
بعنوان

هل من أمـــــل؟
(الجزء الأول)

نُشرت في جريدة "الحياة"
السبت: 1 / 3/ 1418هـ الموافق 5 /7/1997م


بسم الله الرحمن الرحيم

إغلاق مدينة رام الله. هَـدْم منازل الفلسطينيين. شَق طريقٍ بين القدس وأربع مستوطنات. وقف منح التصاريح للعمال الفلسطينيين. شق طريقَين يربطان إسرائيل بمستوطنات في الضفة. إلغاء قرار تجميد البناء الاستيطاني. شارون لا يعترف بالخط الأحمر ويأمر بشراء أراضي الفلسطينيين بأي ثمن. مئات الكيلومترات من الطرق الالتفافية للمستوطنين اليهود. مصادرة أراضي الفلسطينيين. إغلاق مكاتب لمنظمة التحرير الفلسطينية. غارات مستمرة على الجنوب اللبناني. الاستيلاء على متاجر فلسطينية. آلاف من الوحدات السكنية الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية و الجولان . افتتاح نفق تحت المسجد الأقصى. (72) شهيداً وعشرات الجرحى. التنقيب عن النفط في الجولان. حي استيطاني جديد في جبل أبو غنيم. وحي آخر في مستوطنة في نابلس. رفض الانسحاب من لبنان . شن "حملة تطهير عرقي" لإفراغ القدس من سكانها العرب. تهديد عرفات بالإبعاد إذا احتج على الاستيطان بالعنف. أوسلو خطأ جسيم. المفاوضات في طريق مسدود. عدد الضحايا يرتفع إلى 150 جريحاً في نهاية اليوم السادس للمواجهات في الخليل. سقوط ثلاثين جريحاً في الخليل في اليوم السابع، وسبعة بين الخليل وبيت لحم. الحصيلة في نهاية اليوم التاسع من غضبة الفلسطينيين أكثر من 220 جريحاً.

هذه "العناوين المثيرة" هي أمثلة مما تناقلته وسائل الإعلام لحصيلة إنجازات عام مضى على وصول نتانياهو وحزب الليكود إلى الحكم. فهل يبقى أمل بعد هذا كله في حدوث معجزة تحفظ ماء الوجه، فلا تزيد العرب مذلّة أكثر، ولا تشعرهم بمهانة أكبر؟ ولكن، قبل أن نقفز إلى النتائج، وحتى لا نُتهم بالتفاؤل أو التشاؤم، فلنرجع إلى التاريخ القريب لنرى انعكاساته على الحاضر، ولنطابق الأقوال على الأفعال. بعدها فقط يمكن الإجابة عن السؤال: هل ثمة أمل لا يزيد الجُرح غوراً؟

قبل أن أسترسل في المقال، الذي يُعد مقدمة ضرورية لمقال الغد، الذي وعدت بكتابته من قبل عن اتفاقية الخليل، عليّ أن أوضح المنهج، الذي ألزمت نفسي به منذ شرعت في محاولات الكتابة الصحافية:

أولاً: عدم التعرض للأشخاص، مدحاً أو ذمّاً. والتركيز دائماً على تقييم الأفعال، والاستشهاد بالأقوال.

ثانياً: الموضوعية في عرض المعلومات، والأمانة في جمع الحقائق، مع البعد عن العاطفة والانفعالات، سوى الغيرة على القيم الدينية والحرص على المصالح العربية.

ثالثاً: ربط الماضي بالحاضر، ومحاولة استقراء المستقبل.

رابعاً: العرض والتحليل من وجهة نظر شخصية، بناءً على ما يتيسر من قراءات مستمرة، وخبرة محدودة.

خامساً: اقتناع بأن النقد الذاتي سواء للدول العربية أو الإسلامية، علامة قوة وليس علامة ضعف، وبداية للإصلاح إذا أردنا الإصلاح. فالمصارحة بيننا واجبة، ومواجهة أخطائنا ضرورة.

إنّ محاور الخلاف بين العرب وإسرائيل عديدة، ولكن سيُكتفى في هذا المقال بمناقشة قضايا: الاستيطان، والقدس، و الجولان، والحكم الذاتي وإنشاء دولة فلسطين، والمفهوم الإسرائيلي للسلام الدائم. وسيكون المنهج عند مناقشة كل قضية منها استقراء ما أورده رئيس وزراء إسرائيل في كتابه، الذي أصدره عام 1993، بعنوان: موقع بين الأمم، إسرائيل والعالم، والوثيقة الرسمية للخطوط العريضة لحكومته، الصادرة في يونيه 1996، وأقواله وأقوال المسؤولين الإسرائيليين خلال عام كامل، ثم مراجعة ذلك كله في ضوء ما يجري على أرض الواقع.

أولاً: الاستيـــطان

* أورد نتانياهو في كتابه عن الاستيطان: "أنه حق مشروع لكل يهودي أن يبني ويتملك ما يريد على أرض إسرائيل كلها ـ التي حددها صراحة بالأراضي الواقعة غرب نهر الأردن كوطن قومي يهودي".

* وورد في برنامج حكومته الذي طرحه على الكنيست، وأقرّه في يونيه عام 1996: "على الحكومة أن تعمل على تشجيع الاستيطان في أرجاء البلاد، وتوسيعه وتطويره، وأن هناك أهمية وطنية للاستيطان في النقب وفي الجليل وفي هضبة الجولان وفي غور الأردن وفي يهودا والسامرة، لأن الاستيطان جزء من النظام الأمني لدولة إسرائيل وتعبيرٌ عن تجسيد الصهيونية. وتقوم الحكومة بدعم وتطوير المشروعات الاستيطانية في هذه المناطق وتوفير الموارد المطلوبة لذلك. وتناضل الحكومة، بلا هوادة، ضد كل محاولة للمساس بالحق الأساسي لكل مستوطن في أن يمارس كل حقوقه المدنية والاقتصادية على أي بقعة من أرض إسرائيل كلها. وعلى الحكومة أن تصر في كل تسوية سياسية على ضمان وجود الاستيطان اليهودي وتعزيزه وضمان أمنه وعلاقته بدولة إسرائيل".

* وفي بداية تولّيه الحكم، تعهد نتانياهو بدعم وتنفيذ مشروع الاستيطان في الجولان المسمى بـ " الجولان 2000". ويقضي المشروع بمضاعفة أعداد المستوطنين من 25 ألف نسمة إلى 50 ألف نسمة. وفي الأول من مارس الماضي، قال نتانياهو في تصريح له أمام أنصاره من حزب "ليكود": "إن قرار بناء مستوطنة "هارحوما" لا يتعارض مع اتفاقات السلام، ويُعدّ انتصاراً لسياستنا".

* كما ألغت الحكومة قرار تجميد المستوطنات، وسمحت بإقامة آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية، وضاعفت موازنة الاستيطان، وزادت الأموال المخصصة له في كل الوزارات بنسبة 70 %. وأصدرت، في أقل من عام واحد، أكثر من ثلاثين قراراً استيطانياً. كما أطلقت العنان للجرّافات الإسرائيلي وللمستوطنين للاستيلاء على أراضٍ جديدة وبناء مستوطنات حديثة وفتح الطرق الالتفافية، حتى أصبحت هذه المستوطنات بمثابة السرطان الذي يسري في الجسد الفلسطيني. ويقول أحد المراسلين في الضفة الغربية: "إن أكثر ما هالني وأثار قلقي هو تلك السرعة الفائقة التي تتحرك بها حكومة الليكود لإنشاء مستوطنات جديدة، وإقامة طرق وأنفاق عديدة، وكأنها في سباق مع الزمن، فالمناقشات والحوارات السياسية والتصدي للمظاهرات الفلسطينية شيء، وإقامة المستوطنات وشق الطرق والأنفاق شيء آخر".

بعد هذا العرض الموجز نسأل: هل من أمل في أن تتوقف الجرّافات الإسرائيلية التي تهدم المنازل على رؤوس أصحابها، وتُعبّد البنية الأساسية للمزيد من المستوطنات، التي تقطّع جسد الأراضي الفلسطينية؟ لا أرى ذلك. فشارون وراء الجرّافات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي يعتبر توسيع الاستيطان وتغيير الديموجرافية نصراً لسياسته، بل يرفض حتى فكرة إرجاء البناء في مستوطنة جبل أبو غنيم، وليس إلغاؤه، لمدة ستة أشهر. والسبب: أمرٌ بسيطٌ للغاية: ما الذي يجبره على ذلك؟ الاستنكار والإدانة، أم قرارات الأمم المتحدة، أم قرارات مجلس الأمن المعترض عليها، أم المناشدات والتوسلات؟!

ثانياً: القدس

* يقول نتانياهو في كتابه عن القدس: "إنه موضوع غير قابل للتفاوض، فالقدس عاصمة إسرائيل لمدة اثني عشر  قرناً!! وليس هناك ما يُسمى بـ "عرب القدس الشرقية" فاليهود كانوا يعيشون في الأجزاء الشرقية للمدينة، ولكنهم طُرِدوا منها وشُرِّدوا بواسطة القوة الأردنية عام 1948" (هذا هو ادعاؤه).

* أمّا برنامج حكومته فقد نصّ في أحد بنوده على أن: "تعمل الحكومة على تعزيز مكانة القدس بوصفها العاصمة الأبدية للشعب اليهودي". ويؤكد في بند آخر: "إن القدس مدينة واحدة متكاملة وموحدة وستظل إلى الأبد عاصمة إسرائيل الدينية والسياسية، وستحبط الحكومة كل محاولة للمساس بوحدتها وتمنع كل نشاط لا يتلاءم مع سيادة إسرائيل المطلقة على المدينة، وعلى الوزارات المختلفة وبلدية القدس، تخصيص موارد خاصة لتعجيل البناء في القدس وضواحيها".

* نال نتانياهو تصفيقاً حاراً، ووقف أعضاء الكونجرس الأمريكي إعجاباً به ـ لم ينله في الكنيست الإسرائيلي ـ عندما أكّد ثلاث مرّات بقاء القدس موحدة كعاصمة أبدية لإسرائيل وقال في مقابلـة نشرتهـا صحيفة FINANCIAL TIMES"" ، في الخامس والعشرين من فبراير الماضي، "إن القدس كانت ولا تزال عاصمة لإسرائيل". وتساءل: "هل هناك استفزاز لو جرى البناء في لندن أو دبلن من قبل البريطانيين؟". وفي مقابلة تليفزيونية في أول مارس الماضي أكد أن القدس "ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية". وأضاف: "إن القدس عاصمة الشعب اليهودي طوال ثلاثة آلاف عام. وقد سُحبت منّا وقُسّـمت، وهي اليوم تحت سيادتنا كما كانت دائماً، ولن يتغير هذا الأمر". كما أعلن بتحدٍّ للمجتمع الدولي في حديثه إلى الإذاعة الإسرائيلية: ""قد يختلف العالم معنا حول سيادتنا على القدس ولكننا متفقون فيما بيننا على أننا أصحاب السيادة في المدينة، وسنستمر في البناء في القدس عاصمتنا منذ القدم ولن أتأثر بمعارضة من هذا الجانب أو ذاك". وأعلن أنه مستعد للتضحية بالعلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة إذا أصبحت هذه العلاقات سبباً في تقديم أي تنازلات للعرب، ولن يقبل أبداً بتقسيم القدس مُجَدداً وإقامة حائط برلين في وسطها.

* ويبدي نتانياهو العجب، في أحد تصريحاته، من موقف المفاوض الفلسطيني قائلاً: "لقد أقر بمبدأ إطلاق يدنا في القدس. أَلَمْ يوافق على إغلاق ثلاثة مكاتب فلسطينية في القدس الشرقية؟ أَلَمْ يصمت تماماً طوال أربع سنوات بينما حكومة العمل السابقة تزيد أعداد المستوطنين في الضفة الغربية بعشرات الآلاف؟ أَلَمْ يقبل بمبدأ استمرار سيطرة إسرائيل على حدود >قطاع غزة مع مصر والضفة الغربية مع الأردن؟ أَلَمْ يُقرّ بمشاركته في المسؤولية عن حماية المستوطنين الإسرائيليين في الضفة والقطاع؟ أَلَمْ يوافق حكومة حزب العمل السابقة وهي تُخصص خمسمائة مليون دولار لإقامة شبكة من الطرق الالتفافيــة في الضفة الغربية تعزل المدن الفلسطينية نفسها بعضها عن بعض؟ أَلَمْ يوقّع في "أوسلو ـ 2" على خمسمائة صفحة من التعهدات؟".

* أمّا على أرض الواقع، فالقدس كلها في أيدي الإسرائيليين، ونفق البراق لا يزال مفتوحاً، ولم يحصد الفلسطينيون بعد الثورة العارمة التي انتابتهم، ومن ورائهم العرب جميعاً، سوى 72 شهيداً ومئات الجرحى، والجرّافات لا تزال تعمل لإنشاء المستوطنة الجديدة، والطرق الالتفافية تُنشأ، والقدس الشرقية تُعزل، والمساكن الفلسطينية تُهدم، ومكاتب المنظمة تُغلق، والعبث بالمقدسات الإسلامية والمسيحية مستمر، وهويات الفلسطينيين المقيمين في القدس تُسحب، وديموجرافية المدينة تتغير، والتهويد يسير بخطوات حثيثة نحو التنفيذ الكامل، والمظاهرات الفلسطينية تُقمع بأساليب وحشية، وحق الاعتراض (الفيتو) جاهز حتى لو كان مشروع القرار هزيلاً يدين إنشاء مستوطنة جبل أبو غنيم.

بعد ذلك نسأل: هل من أمل في أن يُمنع البناء في ضواحي القدس؟ وهل من أمل في إيقاف خطة التهويــــد؟ وهل من أمل في أن يُدرج موضوع القدس ضمن المفاوضات النهائية، إذا وصلنا إلى ما يسمى بالنهائية؟ هل من أمل في أن تصبح القدس الشرقية في يوم من الأيام عاصمة للدولة الفلسطينية إذا أعلنت؟ فما الذي يُجبر رئيس الوزراء الإسرائيلي على ذلك؟ إنه يتحدى، بقوته وقدرته، ومن ورائه قوة عظمى، تسانده وتؤيده وتتشدد أكثر منه، وكونجرس أمريكي يتسابق أعضاؤه إلى إرضاء إسرائيل ورئيس وزارئها. فكيف يكون هناك أمل بعد ذلك؟

ثالثاً: الجولان

* يقول نتانياهو في كتابه عن هذه القضية: "إن هضبة الجولان ومرتفعات الضفـة الغربية تمثـلان جـداراً واقياً، لا يمكن التخلي عنهما إلى الأبد". ويضيف أن "السلام الرادع" ـ من وجهة نظر إسرائيل يعتمد على ثلاثة عوامل: قوة عسكرية متفوقة على القوات العربية مجتمعة، ومدة إنذار كافية لتعبئة قواتها، ومساحة دنيا لانتشار جيشها. وقال: "إن هذا الجدار يوفر مدة الإنذار، والضفة توفر المساحة". ويتعجب في كتابه ويتساءل: "هل ننشر جيشنا في ضواحي تل أبيب؟!"، وذلك بدلاً من أن يُسأل: "وهل تنشر جيشك على حساب أراضي الآخرين؟". ويضيف: "إن الضفة و الجولان يمثلان عمقاً وارتفاعاً إستراتيجيين ضروريين حتى في ظل امتلاك السلاح النووي، والتخلي عنهما هو انتحار لإسرائيل . وهما من القضايا غير القابلة للتفاوض".

ثم ينتقل إلى النقطة الأكثر أهمية وهي قضية المياه، ويعترف "أن 40% من مياه إسرائيل ، تأتي من الضفة الغربية، و40% الأخرى من هضبة الجولان، ومن ثمّ، كيف يتسنى لإسرائيل التخلي عنهما؟". ويؤكد: "إن سيطرة إسرائيل على أراضي يهودا والسامرة وهضبة الجولان هي الرادع الذي يحول دون قيام حرب شاملة، ويجعل السلام أكثر احتمالاً من أي وقت مضى".

* وفي الخطوط العريضة لبرنامج حكومته، ورد: "إن الحكومة ترى في هضبة الجولان منطقة حيوية لأمن إسرائيل، والسيادة الإسرائيلية الكاملة عليها أساساً لكل تسوية مع سورية، كما تحافظ الحكومة على ضمان استمرار تزويد إسرائيل بالمياه الحيوية من مصادر المياه، في الجولان ويهودا والسامرة".

* يتصرف نتانياهو وحكومته وكأن الجولان أصبحت جزءاً من أرض إسرائيل ، فتصريحاته تؤيد ذلك، وأفعاله تترجم أقواله. ففي أغسطس الماضي، أعطى موافقته للشركة الوطنية الإسرائيلية للنفط على بدء التنقيب عن النفط في هضبة الجولان . كما بدأ العمل في تنفيذ خطة الاستيطان الطموح فيها. ويؤكد في كل مناسبة "أنه يمكن لإسرائيل أن تحيا من دون نفط، ولكنها لن تحيا من دون مياه، لذا، ف الجولان من دون شك ـ ليست موضوع تفاوض".

* ما الذي يحدث ـ حالياً ـ على أرض الواقع: زيادة أعداد المستوطنين والمستوطنات في هضبة الجولان استنزاف مواردها الزراعية والمائية والنفطية ـ التي لم تسلم هي الأخرى من الاستنزاف، وتحصينها من وجهة النظر الدفاعية، وتغيير ديموجرافية الأرض، وقمع الأهالي، وعدم قبول حتى مجرد ذكر مبدأ التفاوض في شأنها.

تلك هي أفكاره وبرنامج حكومته، تؤيدها تصريحاته وأفعاله، فهل من أمل في وقف الاستيطان في هضبة الجولان وإيقاف تغيير ديموجرافيتها كمرحلة أولى؟ وهل من أمل في استعادتها بعد ثلاثين عاماً من اغتصابها كمرحلة ثانية؟ فما الذي يُجبر إسرائيل على التخلي عنها؟ فقواتها تحتل هذه الهيئة الإستراتيجية الحاكمة، ولا يوجد ما يهددها. ومطالبة الحكومة الإسرائيلية الحالية بما قطعته الحكومة العمالية السابقة على نفسها في شأن الجولان مشافهة ـ لا تلقى آذاناً صاغية. والمفاوضات متوقفة. وقد أصبح استئنافها هو محور الجهود المبذولة ومنتهى الأمل الذي نصبو إليه. والولايات المتحدة لا تكترث، فما دام أمن إسرائيل غير مهدد، فلا شيء يعنيها، بعد أن بات السلام في الشرق الأوسط يحتل الأسبقية الرابعة في السياسة الخارجية.

رابعاً: الحكم الذاتي والدولة الفلسطينية

* أورد في كتابه عن هذه القضية ما يلي: "إن منح الحكم الذاتي لعرب يهودا والسامرة، يعني أن تكون مجالات الأمن، والشؤون الدفاعية، والشؤون الخارجية، والسيطرة على العُملة والتجارة الخارجية، والموارد المائية، تحت السيطرة الإسرائيلية من دون منازع. بينما يُدير العرب المجالات الأخرى لتصريف شؤون حياتهم اليومية. وتكون هناك حرية كاملة للإسرائيليين للحركة والإقامةبأي مكان يشاؤون".

* ويحدد في كتابه أيضاً: "إن السيطرة العسكرية تعني السيطرة على الدولة كلها، بما فيها حرية الحركة على الطرق كافة، وحرية تعقب المتهمين والدخول إلى أي منطقة، حتى لو كانت مأهولة بالسكان وخاضعة للحكم الذاتي".

* ونصّـت الوثيقة الرسمية للخطوط العريضة للحكومة الإسرائيلية، في أحد بنودها، على أن الحكومة تقترح على الفلسطينيين تسوية يستطيعون في إطارها أن يديروا حياتهم بشكل حر في إطار حكم ذاتي، وتعارض الحكومة إقامة دولة فلسطينية مستقلة أو أي سيادة عربية غربي نهر الأردن، كما تعارض "حق العودة" للفلسطينيين إلى أرض إسرائيل غربي الأردن.

* تلك هي أفكار نتانياهو في كتابه، وقد أكدها غير مرة، خلال حملته الانتخابية، وتلك هي سياسة حكومته! ولنستمع إلى أربعة أمثلة مما صرح به منذ أن جاء إلى سدة الحكم، الأول: في حديثه إلى صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في الثامن مـن نوفمبر عام 1996، قال: "إن أي كيان فلسطيني يقام بموجب اتفاقية سلام نهائية مع منظمة التحرير الفلسطينية لا بد أن يشبه بورتيريكو أو أندورا". الثاني: في حديث آخر نشرته صحيفة لوفيجارو الفرنسية، في الثامن عشر من يناير الماضي، قال: "إن هدف حكومته هو الحفاظ على حكم ذاتي فلسطيني محروم من الصلاحيات التي يمكن أن تعرض بلادنا للخطر". الثالث: في مقابلة مع الإذاعة الرسمية الإسرائيلية، في العشرين من يناير الماضي، صرّح: "إنه في حال إعلان دولة فلسطينية من جانب واحد، سيكون رد فعلنا قاسياً جداً لأنه سيكون انتهاكاً للاتفاقيات المعقودة مع السلطة الفلسطينية". الرابع: في المقابلة الإذاعية نفسها أضاف: "إنني لا أستطيع القبول بأن يُشرف الكيان الفلسطيني المقبل على المجال الجوي، أو أن يتمكن من اقتناء أسلحة، كصواريخ من شأنها أن تُعطل طيراننا المدني والعسكري، أو يكون له حق استخراج المياه، أو عقد تحالفات عسكرية مع دول مثل إيران أو العراق ، ولن نمنح هذا الكيان أي صلاحيات سيادية يمكن أن تُعَرِّض إسرائيل للخطر".

* وفي الوقت الذي كانت فيه جامعة الدول العربية تعقد اجتماعها الطارئ في الأول من ديسمبر الماضي لبحث خطر قضية المستوطنات على مسار عملية السلام، كان رئيس وزراء إسرائيل يؤكد، أثناء زيارته مستوطنة أرئيل، في الضفة الغربية، حق إسرائيل في الاحتفاظ بمنطقة وادي الأردن في الضفة الغربية المحتلة "وإلى الأبد"، ويجدد رفضه إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ويوضح أن اتفاقات أوسلو تركت مسألة الأراضي التي يمكن أن يتنازل عنها للسلطة الفلسطينية معلّقة، وتحديدها في يد إسرائيل وحدها. وفي مزيد من تحديه للانتقادات العربية، أعلن مستوطنة أرئيل ـ وهي ثانية أكبر مستوطنة في الضفة ـ عاصمة للسامرة، وقال: "سنبقى هنا وإلى الأبد".

بعد هذا كله، وفي ضوء هذا الواقع الذي نشهده، هل ثمة أمل في أن نرى للفلسطينيين دولة مستقلة ذات سيادة كاملة يرفرف عليها عَلَمُهم في يومٍ من الأيام؟ هل من أمل في أن نشهد أرضاً فلسطينية متصلة المساحة، خالية من الطرق الالتفافية، التي تحيلها إلى "كانتونات" منعزلة؟ فما الذي يُجبر إسرائيل على التخلي عن سيطرتها على ما تريد السيطرة عليه؟ فهي التي تُحدد منفردة حجم انسحابها وتوقيته، ويؤيدها في ذلك "الراعي الأوحد للسلام" في الشرق الأوسط، وهي التي تحدد صلاحيات الحكم الذاتي الفلسطيني، وهي التي تهدد وتتوعد، وتحاصر وتُشرد، وتسمح وتمنع دخول الفلسطينيين. والولايات المتحدة، لا تمانع ولا تضغط، بل تؤيد وتساند، وتصدق وتصادق على كل ما تدّعيه إسرائيل.

خامساً: مفهوم السلام الدائم

* يقول نتانياهو في كتابه عن مفهومه للسلام الدائم: "إن السلام الوحيد الذي يمكن أن يسود بين إسرائيل والدول العربية هو سلام الردع، الذي يجعل هذه الدول تخشى المواجهة، ليس حباً بالسلام وإنما خوفاً من الهزيمة. ومن شروط نجاح هذا النوع من السلام، أن تكون إسرائيل قوية جداً والدول العربية ضعيفة جداً". ويبرر مفهومه هذا بأن النزعة العدوانية للأنظمة العربية لا تتوقف إلا بـ "الردع". كما يؤكد في كتابه أن تحقيق الأمن الكامل لإسرائيل هو تحقيق للسلام الدائم. لذا، فهو يرفض مبدأ "الأرض مقابل السلام"، لأن التنازل عن الأرض يعني ـ في مفهومه ـ التنازل عن الأمن. لذا، رفع شعار "السلام مقابل السلام" أو "الأمن مقابل السلام" يوم تولّيه الحكم.

* أمّا سلامه الدائم، فقد حدده في النقاط التالية: أولاً: إنهاء المقاطعة الاقتصادية، وتعهد العرب بالامتناع عن إنتاج الأسلحة المدمرة أو محاولة الحصول عليها ، وتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل. ثانياً: ترتيبات أمنية شاملة (بالطبع لإسرائيل) مثل: إنشاء خط ساخن بين سورية والقدس والاتفاق على إجراءات لإخطار الطرف الآخر بالمناورات والتحركات العسكرية، وإنشاء مناطق عازلة على الحدود، وتقديم الضمانات الدولية الفاعلة. ثالثاً: الحدود الآمنة لإسرائيل هي، من الشرق: مرتفعات الضفة الغربية وأراضيها، ومن الشمال: مرتفعات الجولان . أمّا المطالبة بدولة فلسطينية على الضفة الغربية، فمطلبٌ يُعرض السلام للخطر، ويتجاهل حقيقة أن الدولة الفلسطينية قائمة حالياً. فأرض فلسطين تتكون من دولتين حديثتين هما: إسرائيل والأردن وهذه الأرض تكفي لاستيعاب الدولة اليهودية الصغيرة، إسرائيل، والدولة الأكبر لعرب فلسطين، والمسماة الأردن ومن ثمّ، لا يحق للعرب الأقلية الذين يعيشون في إسرائيل المطالبة بإقامة دولة ثانية لهم. رابعاً: القدس عاصمة إسرائيل وموضوعها غير قابل للتفاوض، خامساً: منح الحكم الذاتي لعرب يهودا والسامرة في المناطق المأهولة بالسكان فقط، وليست الأرض بينها. سادساً: تدور التسوية النهائية حول حق منح الجنسية الإسرائيلية للمقيمين العرب، وتخييرهم بين البقاء ضمن الدولة الإسرائيلية أو النزوح إلى دول أخرى، وتكون هذه الخطوة بعد 20 عاماً من الاختبار. سابعاً: يكون حل مشكلة اللاجئين بتوطينهم في الدول المقيمين بها أو في دول أوروبا وأمريكا. ثامناً: حظر كامل على توريد أي معدات أو تسهيلات تُمكن الدول العربية من إنتاج الأسلحة غير التقليدية. تاسعاً: تطبيع العلاقات كاملة بالدول العربية جميعها.

* ومن المضحك المبكي أن  نتانياهو نفسه يتساءل في كتابه: ما الذي يستفيده العرب من السلام، إذا لم تتنازل إسرائيل عن أي أراضٍ؟ ويجيب عن سؤاله: "إنه بصرف النظر عن الأراضي المُتنازع عليها، فإن العرب سيجنون كثيراً من المكاسب في ظل السلام. أولاً: تجنب النفقات المتزايدة للحرب. فقد يجد الحاكم العربي الذي شنّ الحرب قواته المسلحة وقد دُمِرَتْ، وعاصمة دولته قد خُرِّبَتْ، وإذا لم يكن محظوظاً، فقد يدفع حياته ثمناً لتهوره، لأن إسرائيل إذا واجهت أي تهديد لوجودها فسترد بقوة مرعبة، لا يتصورها أحد، عربياً كان أم يهودياً. ثانياً: بناء اقتصاد الدول العربية، والاستفادة من الإمكانات الهائلة التي تنتج من التعاون المتبادل مع إسرائيل في جميع المجالات، مثل التجارة والمياه والري والزراعة والسياحة والمجال الطبي. ثالثاً: وهو الأهم، شعورهم (أي العرب)  بالأمان".

* وفي الوثيقة الرسمية للخطوط العريضة للحكومة، وتحت البند الخاص بالسلام والأمن، نقرأ: "إن الحكومة تعمل على تعزيز جبروت جيش الدفاع الإسرائيلي، وسائر الأذرع الأمنية الأخرى، بهدف ردع العدو ومنع الحرب والدفاع عن الدولة وسكانها وتحقيق السلام".

* أمّا على أرض الواقع، فإنه وحكومته يحققان ما سبق ذكره والتخطيط له، بثبات ومن غير تردد، فقرارات الشرعية الدولية دُفنت، ومرجعية مدريد أُسقطت، وأوسلو انتُهكت، وإعادة التفاوض من جديد شرط أساسي لاستئناف المفاوضات. وأصبحت استكانة الدول العربية مطلباً رئيسياً لإسرائيل، فإذا نَفّـذت القوات المسلحة المصرية أو السورية مناوراتها السنوية، أُعلن أنها تهدد الأمن الإسرائيلي، وإذا تسلحت الدول العربية، اعتبروا ذلك قمة التهديد للدولة الإسرائيلية. وأين يقف الإسرائيليون الآن؟ إنهم في سقف الأمة العربية بالتحالف التركي ـ الإسرائيلي، وفي جنوبها بالوجود في إريتريا وجزيرة حنيش، وتحيط أذرعهم بالمحيط القريب والبعيد.

بعد أن استعرضنا مفهوم السلام الدائم لدى المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتانياهو، نتساءل هل من أمل في أن يتحقق السلام الشامل العادل بين الدول العربية وإسرائيل؟ لقد وصل بنا الحال إلى وجود حكومات متعاقبة فـي تل أبيب تقتل النساء والأطفال وتشرد العائلات، وتنتهك كل قرارات المجتمع الدولي، تزرع الأراضي المحتلة بالمستوطنات اليهودية، تستولي على أرض العرب، وتحفر الأنفاق، وتشق الطرق التي تصل بين المستعمرات وتلف المدن الفلسطينية، تغير معالم الأرض جغرافياً وديموجرافياً، تواجه الصدور العارية في جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية بقذائف الدبابات، وتواجه الأطفال الأبرياء بالبنادق وتكسير العظام، تحدد عمق انسحابها بإرادتها، تفرض سياسة الأمر الواقع، حتى لم يبق شيء يمكن التفاوض عليه. فهل من أمل؟

ولكن قبل هذا كله، فلنسأل أنفسنا: ماذا فعلنا ـ نحن العرب ـ لمواجهة هذه القضايا؟ والإجابة واضحة: تنازلنا ونتنازل، فمن قرار التقسيم، إلى القرار 242، إلى ميثاق مدريد، إلى اتفاق أوسلو، إلى اتفاقية الخليل. سلسلة من التراجعات، وليل مظلم طويل، لم تبدد ظلمته إلاّ في العاشر من رمضان (السادس من أكتوبر) عندما غدت المبادأة وللمرة الأولى في أيدينا. لقد جعلتنا إسرائيل منذ نشأتها (كما ذكرت في مقالي السابق) في حالة من رد الفعل الدائم، عاجزين عن المبادرة بشيء مخطط، أو الاتفاق على إستراتيجية عربية موحدة، ولم نكن أبداً على قلب رجل واحد في يومٍ من الأيام. وقد أعجبتني مقولة أحد المفكرين العرب: "لا تلوموا إسرائيل أو تركيا أو إيران، ففي كلٍّ منها رأي واحد وقرار واحد ومصلحة قومية واحدة، أمّا العرب فهناك (22) رأياً، و (22) قراراً و (22) مصلحة متباينة".

لقد منحنا الله كل عناصر القوة والتفوق، ولكننا لم نحسن توظيفها تحقيقاً لمصالحنا، انشغلنا وشغلتنا إسرائيل بتوافه الأمور، واعتمدنا على غيرنا لحل مشاكلنا، وأصبحت أصابع اتهامنا تشير إلى صدورنا. فهل من أمل في أن يكون للعرب ـ في يوم قريب ـ رأي واحد وقرار واحد ومصلحة عليا واحدة؟ هل من أمل في أن نعي أن الوقت ليس في مصلحتنا، وأنه آن الأوان لحشد الإمكانات، والتنسيق في جميع المجالات، والتخطيط والاستعداد لأسوأ الاحتمالات، لمواجهة المصير المشترك؟ عند ذلك فقط، سيصبح للعرب وزن على المستويين الإقليمي والدولي، وسيجبرون قادة إسرائيل ومن يساندها على تغيير مواقفهم، وتنفيذ السلام الشامل القائم على مبادئ الحق، وقِيَم العدل.

أرجـو ذلك.

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة