الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة التاسعة
بعنوان

هل من أمـــــل؟
(الجزء الثاني)

نُشرت في جريدة "الحياة"
الأحد 2 /3 /1418هـ الموافق 6 /7/1997م


بسم الله الرحمن الرحيم

قد يتبادر إلى الذهن ـ للوهلة الأولى ـ سؤال عن علاقة مقال الأمس بموضوع "اتفاقية الخليل"، وهل لها علاقة بالأزمة الراهنة التي تمر بها مفاوضات السلام؟ وما أهمية ذكر هذه الاتفاقية في الوقت الحالي؟

إجابةً عن السؤال الأول: هناك علاقة وثيقة بين محاور الاختلاف، التي ذُكرت في مقال الأمس واتفاقية الخليل. إذ جاءت الاتفاقية مطابقة تماماً لما أورده نتانياهو في كتابه، ولما اتفقت عليه حكومته، ولما أصدره من تصريحات خلال عام كامل منذ توليه سدة الحكم، ولِـمَا نُفِّذ ويُـنَفّذ على أرض الواقع.

جاء نتانياهو إلى الحكم والهاجس الأمني في مخيلته، وكان أول ما فعله هو رفض مبدأ "الأرض مقابل السلام" ورفع شعار "الأمن مقابل السلام"، "والأمن أولاً ثم السلام"، ثم بدأ عهده بـ "لاءاته" المشهورة. كما رفض اتفاقية المرحلة الانتقالية وقرر أنه ورثها من حزب العمل ولكن سيعمل جاهداً لتحسينها، ولن يطبقها كما هي. ويبدو أنه كان يهدف أساساً إلى جعل "اتفاقية الخليل" سابقة لإعادة التفاوض على ما تم التفاوض والاتفاق عليه، وقد نجح في ذلك.

لن أعيد ما طُرح عبر وسائل الإعلام المختلفة بعد توقيع الاتفاقية، في 15 يناير الماضي، ولكن سأحاول فقط استعراض البنود الرئيسية لها، واستخلاص النقاط التي نجح نتانياهو في فرضها، والأهم من ذلك استعراض فقرات خطابَي الضمان للراعي "الأوحد" للسلام في الشرق الأوسط، الذي أصبح السلام يشكل أسبقية رابعة في أسبقيات عمله السياسي، بعد أن نجح في تحييد الدور الروسي، والأوروبي، ووأد جميع محاولات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وأصبحت قراراتهما حبراً على ورق، ثم تُركت الساحة لإسرائيل تلعب فيها وبها كيفما تشاء.

اشتملت البنود الرئيسية للاتفاقية على الآتــي:

أولاً: قُسّمت مدينة الخليل، فعلياً، إلى قسمين، الأول: يشمل (80% ) من مساحة المدينة وأطلق عليه  اسمH-1، ويقطنه من (120) إلى (140) ألف فلسطيني، ويكون ضمن مسؤولية وصلاحيات السلطة الفلسطينية. والقسم الثاني: بمساحة (20%) تقريباً وأُطلق عليه اسم H-2، ويقطنه (20) ألف فلسطيني تقريباً، و(400) مستوطن يهودي فقط. ومن أجل هؤلاء المستوطنين تصبح المساحة كلها تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، لحمايتهم وتوفير الأمن المطلق لهم. كما يُسمح للمستوطنين بحمل السلاح ويُحرّم على غيرهم، يفعلون ما يشاؤون ولا رادع لهـم (فأي ظلم أقسى من هذا؟!).

وعلى ذكر "المستوطنين"، فقد صرّح نتانياهو بعد توقيع الاتفاقية مباشرة قائلاً: "يجب ألاّ نستعمل كلمة (مستوطنين) فهم سكان الأرض وأصحابها فهي أرض أجدادهم، وهذه الاتفاقية ليست انسحاباًمن الأراضي وإنما عملية "إعادة انتشار" فقط، وهناك فرق كبير بين كلمتي (الانسحاب)، و (إعادة الانتشار)".

ثانياً: إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في المدينة وما حولها، بما يضمن للإسرائيليين الأمن والسيطرة العسكرية الكاملة على المدينة، ويتيح إعادة احتلالها إذا اقتضى الأمر، كما لوَّحوا بذلك غير مرة. وهذا البند ترجمة فعلية لتصريح نتانياهو السابق.

ثالثاً: تتشكل مراكز الشرطة الفلسطينية أو نقاطها التي تقام في المنطقةH-1 مما لا يزيد على (400) شرطي، مزودين بـ (20) عربة، ومُسلّحين بـ (200) مسدس، و (100) بندقية للدفاع عن هذه المراكز فقط. وتمارس الشرطة الفلسطينية واجباتها بحرية في المنطقةH-1 فقط، وأي نشاط أو تحرك خارج هذه المنطقة يجب التنسيق والتصريح به مسبقاً من خلال مكتب التنسيق المشترك.

رابعاً: تتكفّل الشرطة الفلسطينية وبلدية الخليل بالمسؤوليات الإدارية والأمنية في المنطقةH-1، وتشمل الأمن الداخلي والنظام العام، ورخص البناء بضوابط معينـــة وبالتنسيق مع الحكم العسكري الإسرائيلي إذا كان البناء قريباً من أماكن المستوطنين والطرق المخصصة لهم (حتى 100 متر)، وكذلك كافة الأعمال الخدمية الأخرى من مياه وإنارة ونظافة، وتحسين البنية الأساسية ... إلخ. كما تتكفّـل بلدية الخليل بالمسؤوليات المدنية في المنطقة H-2، عدا ما يخص الإسرائيليين وممتلكاتهم، فإنها ستظل تُمارس بواسطة الحكومة العسكرية الإسرائيلية. ويُسمح بمفتشين فلسطينيين غير مسلحين لمراقبة الفلسطينيين وإجبارهم، فقط، على الانصياع إلى القوانين والتعليمات.

أي بينما السلطة الفلسطينية مسؤولة عن تقديم كافة الأنشطة الخدمية في المنطقة H-2، بما فيها مناطق المستوطنين، فهي لا تملك أي سيطرة عليهم، أي تخدمهم فقط من دون صلاحيات. وهذا يؤكد ما صرّح به نتانياهو في اجتماعٍ لكتلة ليكود البرلمانية، إذ قال: "إذا أقدمت السلطة الفلسطينية على قطع التيار الكهربائي عن المستوطنين بعد إعادة الانتشار، فسنقطع الكهرباء والمياه ألف مرة عن المدينة كلها، كما أننا سنجد السبيل لتوسيع الوجود اليهودي في الخليل. ولن يتولى الفلسطينيون الإشراف على رخص البناء، لأنه من غير المعقول أن يضطر مقيم يهودي يحتاج إلى زيادة شرفة على منزله في الخليل إلى طلب ترخيص من عرفات".

خامساً: تسييـر دوريات مشتركة داخل المنطقةH-1 فقط. وتشكيل وحدات متحركة مشتركة تتعامل داخل المنطقة H-2 مع الحوادث التي يكون الفلسطينيون فقط طرفاً فيها. ويحمل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي من الوحدات المتحركة المشتركة داخل مدينة الخليل أنواعاً متكافئة من الأسلحة، رشاشات قصيرة من نوع إنجراهام بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني، وبنادق آلية M-16 إلى الجانب الإسرائيلي (وهذه الأسلحة غير متكافئة على الإطلاق). كما تُشكّل أربع فرق محددة للرد السريع يكون موقعها داخل المنطقةH-1، بمعدل فرقة واحدة في كل مركز للشرطة، للتعامل مع الحالات الأمنية الخاصة، وتتألف كل فرقة من عدد لا يتجاوز 16 فرداً. ولا يُـسمح بعمل هذه الفرق خارج المنطقةH-1، إلاّ بموافقة مسبقة من مركز التنسيق المشترك.

سادساً: إنشاء لجنة اتصال عليا، ومركز تنسيق مشترك، ومكتب اتصال مدني مشترك، ودوريات مشتركة، وفرق متحركة مشتركة، حتى أضحى كل تحرك، أو نشاط، أو مرور، أو تنقل، أو حتى إغلاق شارع في المدينة للإصلاح، يتطلب التنسيق والموافقة المسبقة.

سابعاً: تتكفّـل الشرطة الفلسطينية بمسؤولية حماية الأماكن اليهودية الأربعة المقدسة داخل الخليل، على أن تتم زيارات تلك الأماكن من المصلّين أو غيرهم من الزوار في صحبة فرقة متحركة مشتركة مهمتها أن تسهر على الدخـول الحـرّ المُيسّـر والآمـن إلى الأماكن المقدسة، وإتمام الزيارة في سلام (وبالطبع لم تُذكر معاملة المسلمين بالمثل).

ثامناً: أهم ما ذكر في شأن البنية التحتية: أنه يجوز للجانب الإسرائيلي، عن طريق مكتب الاتصال المدني، أن يطلب من البلدية تنفيذ أشغال على الطرقات أو غيرها من عناصر البنية التحتية مما هو ضروري لرفاهية الإسرائيليين المقيمين داخل المنطقةH-2 . وإذا عرض الجانب الإسرائيلي أن يدفع تكاليف هذه الأشغال، فإن الجانب الفلسطيني يتكفل بتنفيذها كجزء من أولوياته القصوى. وأن تتقيد ارتفاعات المباني القريبة من المناطق المتاخمة للمستوطنين في المنطقةH-1 طبقاً لبعدها عن هذه المناطق، وضرورة أخذ موافقة مسبقة من مكتب الاتصال للشؤون المدنية.

بعد استعراض أهم بنود الاتفاقية، التي توضح الظلم البيّن الصارخ، فإن أخطر النتائج التي تحققت هي:

1.

نجح نتانياهو في فتح ملف الخليل وإجراء تعديلات على عديد من بنوده (الواردة في اتفاقية المرحلة الانتقالية)، كما نجح في إعادة التفاوض على اتفاقات سبق إبرامها والاتفاق عليها.

2.

منحت الاتفاقية المستوطنين الحق في البناء والتوسع في المدينة بإذن الحاكم العسكري، وليس من بلدية الخليل، مما يعني القبول بمبدأ الاستيطان والتوسع فيه.

3.

لم يتم حتى الآن حسم قضية من له حق السيطرة على الحرم الإبراهيمي الشريف.

4.

يُعد خطاب الضمان لإسرائيل ، في بنوده المختلفة، منحازاً بشكل خطير وفاضح: فهو يطمئن إسرائيل بالتزام الولايات المتحدة التزاماً صريحاً بأمنها، والاعتراف بالمتطلبات الأمنية لإسرائيل وتلبيتها كاملة. كما يؤكد أن لإسرائيل الحق في تحديد حدود آمنة لها يمكنها الدفاع عنها، والتفاوض في شأنها بشكل مباشر مع جيرانها. والسؤال ما هي هذه الحدود؟ هل هي في قلب الضفة أو في الجولان أو في جنوب لبنان؟ كما أنه لم يحدد مساحة عمليات إعادة الانتشار. والسؤال: أين القرار 242 الذي حدد الحدود الآمنة وشدد على ضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة؟

أمّا خطاب الضمان للفلسطينيين: فهو التشديد على ضمان النظام العام والأمن الداخلي في الضفة والقطاع. ولم يذكر الخطاب كيف يمكن ضمان النظام العام، وبين السكان العرب ما يزيد على 140 ألف مستوطن مُسلّحين ومتطرفين، وقوات الاحتلال موجودة في كل مكان تحمي تجبرهم، والتحركات الفلسطينية محسوبة وبإذن من اللجان الأمنية المشتركة المتعددة الأغراض؟

5.

لم تتحرر مدينة الخليل تحرراً كاملاً، وإنما قُسمت إلى قسميْن، وسُـمِح بحراسة إسرائيلية للمستوطنات والمستوطنين.

6.

سيبقى (20) ألف فلسطيني رهينة لحوالي (400) يهودي مُسلّح يعيشون في المنطقة المحيطة بالحرم الإبراهيمي.

7.

الاتفاق يُعد سابقة لتقاسم الأرض بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، فقد أصبحت إسرائيل شريكة في الأرض والمياه والطرق .. بالتراضي، أي سابقة للبقاء في كل المستوطنات الأخرى.

8.

هناك مواعيد متفق عليها لإعادة الانتشار وبمراحل محددة، ولكن من أين إلى أين؟ وفي أي مساحة؟ وضمن أي تصور؟ كل هذا أصبح من حق إسرائيل أن تقرره منفردة وحسب ما يتراءى لها.

ولنعدْ إلى تصريحات نتانياهو في القدس عقب توقيع الاتفاقية: "لن نترك الخليل، سوف نبقى في جميع أنحاء المدينة التي يوجد فيها يهود، ولن يكون هناك رجال شرطة فلسطينيون مسلحون قرب الأحياء اليهودية من دون موافقتنا". وفي حديثٍ إلى صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية يقول: "إن هدف الحكومة هو الحفاظ على حكم ذاتي فلسطيني محروم من كل الصلاحيات التي يمكن أن تُـعَـرِّض بلادنا للخطر. وإن هدفنا هو الحفاظ على أرض أجدادنا، وهذا الأمر ينطبق تماماً على ما فعلناه في إطار اتفاقية الخليل: فنحن نبقى في الخليل وننتشر في المدينة وليس خارجها".

وعلى كلٍّ، فإن نتانياهو ليس ظاهرة فريدة في تاريخ الفكر السياسي الإسرائيلي، بل هو في تشدده نسخة لكل قادة إسرائيل ومسؤوليها، فعلى الرغم مما أحرزه من نجاح، نجد إسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، يصف الاتفاقية بأنها "هزيمة ألحقناها بأنفسنا، وهو استسلام لا يجلب السلام"، ويصف نتانياهو بأنه "خائن للحركة القومية". فشامير يرغب في الاستيلاء على كل شيء من دون أن يعطي شيئاً. إنّ هذا هو أسلوبهم جميعاً.  

أمّا شارون، وزير المالية المرتقب، الذي غيّر ويغير البنية الأساسية للأراضي الفلسطينية وديموجرافيتها في صمت رهيب، فقد ذكر في حديثه إلى الإذاعة الإسرائيلية في نوفمبر الماضي: "إن الفترة الحالية التي تمر بها إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام هي مرحلة "أكون أو لا أكون". وادّعى أن "الجميع يعملون حالياً على تهديد الكيان الإسرائيلي، ولكن إسرائيل من جانبها ستحاول الحفاظ على أمنها لأن كل الدول تعمل ضدها". كما قال :"ما زلت حتى الآن غير راضٍ على سياسة نتانياهو المترددة وغير الحاسمة، وإني أتمني أن يذهب بعيداً عن أراضي إسرائيل وسأكون أول المؤيدين لإسقاطه، لأنني أريد زعيماً آخر قوياً من الليكود يتولى الحكم، ويرفض التنازل للعرب عن أي شيء، ولا مانع من أن يوجّه ضربة عسكرية تضعهم في أحجامهم الطبيعية". وأشار إلى أن المناطق التي يجب أن تُبْـقي عليها إسرائيل في الضفة الغربية هي: وادي الأردن والمنطقة المحاذية له من الغرب، والمناطق الجبلية قرب البحر الميت وغالبية الطرق المؤدية إلى وادي نهر الأردن وقرب البحر الميت، إضافة إلى المنطقة المحيطة بالقدس. وطالب أخيراً بضرورة انضمامه إلى المجلس الوزاري المصغّر، الذي يتخذ القرارات الخاصة في شأن مسيرة السلام وأمن إسرائيل، لأنه طبقاً لقوله "هو القادر على فرض السلام الآمن على الفلسطينيين، وهـو الذي يعرف كيف يتعامل مع العرب".

لقد نسفت هذه الاتفاقية، مثلما فعلت اتفاقية المرحلة الانتقالية الموقعة في واشنطن في 28 سبتمبر 1995، كافة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وكأن شيئاً لم يكن. ويُعد خطاب الضمان الموقع من وزير الخارجية الأمريكية، وارن كريستوفر، نكوصاً عن كافة الالتزامات التي قطعتها الولايات المتحدة على نفسها في المحافل الدولية منذ صدور القرار 242، ويعيدنا إلى نقطة الصفر. فأي نجاح أكثر من ذلك، يمكن أن يحققه نتانياهو! لذا، كان سؤالنا: هل من أمل في ظل هذه الظروف أن تتغير الظروف؟

وهذا يقودنا للإجابة عن السؤال الثانيالذي بدأت به المقال: هل لاتفاقية الخليل علاقة بالأزمة الراهنة التي تمر بها مفوضات السلام؟ نعم لها علاقة، لأنها أعطت حقاً لمن لا يستحق، وسمحت بعدم احترام ما اتفق عليه، وألقت بالقرارات الدولية في زاوية الإهمال والنسيان، وأقرت بجرأة إسرائيل، وحدها، على انتهاك المواثيق والأعراف، من دون أن يلومها أحد، بل الكل يناشدونها ويستعطفونها، والراعي الأوحد يستخدم الفيتو ويعارض حتى قرار دفع مبلغ  مليون و سبعمائة ألف دولار تعويضاً عن الأضرار المادية التي نجمت عن قصف معسكر القوات التابعة للأمم المتحدة في قانا، في جنوب لبنان العام الماضي. والكونجرس الأمريكي يؤيد الإجراءات الإسرائيلية كلها، ويتعجل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ويرصد المبالغ اللازمة لذلك، متناسياً تعهدات الولايات المتحدة نفسها تجاه هذه القضية. فهل من المنتظر إحراز أي تقدم في المفاوضات الحالية، إذا استؤنفت؟ وإذا حدث تقدم، ففي أي اتجاه؟ ولمصلحة من؟

إن ما حدث في اتفاقية الخليل سيتكرر في المراحل القادمة، بصورة أو بأخرى. وسيستمر مسلسل المراوغات، وفرض الأمر الواقع، وكسب الوقت الذي أؤكد أنه في مصلحة إسرائيل ، فضلاً عن العبث بالقرارات، والضغط ليس على الفلسطينيين وحدهم بل على العرب جميعاً، فعليهم الاعتراف بالواقع، وقبول ما يُلقى إليهم من فتات، وفتح عواصمهم لاستقبال قادة إسرائيل، والمشاركة معهم تحت مختلف التسميات التي في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب. ولنتساءل ماذا حققنا بعد ثلاثين عاماً من اليوم الأسود، يوم الخامس من يونيه عام 1967، سوى عودة سيناء؟ وهذه إجابة السؤال الثالث الذي طرحته في بداية المقال.

ما العمل؟ وأين الخطأ؟ بالتأكيد هناك خطأ ما؟ هل هو فينا أو فيهم؟ لا أعتقد أن الخطأ فيهم، فهم يخططون للمستقبل البعيد، ليس لعشرة أعوام أو عشرين بل لمائة عام. إذاً، فهم يدرسون ويخططون وينفذون، ويحولون فكرة وطن قومي إلى دولة معترف بها، تُسيطر على قرارات دولة عظمى وحيدة وتُسخرها لتنفيذ مصالحها حتى لو كانت على حساب هذه القوة العظمى، وتحاول أيضاً أن تهيمن على مقدرات شعوب منطقة بأسرها، حتى أصبحت إسرائيل أخطبوطاً يلف بأذرعه محيط الدول العربية القريب منها والبعيد.

والعرب، ماذا يفعلون؟ إنهم أشبه برجل قوي، حباه الله بكل عناصر القوة، ولكنه لا يدرك مصادر قوته، وإذا أدركها  لا يستخدمها، وإن استخدمها كان الاستخدام في التوقيت الخطأ والمكان الخطأ، فَـتُـمْسي قواه مبعثرة، وحركاته غير متسقة، ومصادر قوته هباءً منثوراً.

إن قوة إسرائيل مستمدة، أساساً، من تفرقنا، وعدم استغلالنا لنقاط قوتنا. فلو كان لدى إسرائيل مثلاً، عُشْر ما لدى العرب من قوة اقتصادية ومالية وجغرافية وبشرية لسادت العالم ولدانت لها شعوبه. فالأمل إذاً، كل الأمل، في أن نتعرّف بمصادر قوتنا، ثم نُحسن التخطيط لتوظيفها تحقيقاً لمصالحنا. نركز على نقاط اتفاقنا، ونبتعد عن بؤر اختلافنا، نصلح ما بداخلنا لنستطيع مواجهة ما بخارجنا. لا ندع أذرع الأخطبوط تخنقنا، ثم نذرف الدمع ونلقي بأخطائنا على شماعة غيرنا. علينا أن نسعى إلى السلام وليس إلى الاستسلام، علينا ألاّ نكون "رد فعل" للآخرين، بل علينا أن نكون "فعلاً" ونجبر الآخرين أن يكونوا "رد فعلٍ" لنا. علينا أن نقوّي أنفسنا في جميع المجالات، فقوتنا رادع لغيرنا ـ من دون قتال ـ وضمان لاستمرار السلام، السلام العادل المستمد من القوة والقدرة، وليس من الضعف والاستكانة.

هنا فقط تبدأ المعالجة الصحيحة لقضايا الاختلاف بيننا وبين إسرائيل ، ويهدأ الرئيس ياسر عرفات الذي يجوب المعمورة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، يلتقي برؤساء الدول والمنظمات، باحثاً عمن يمد يد العون إليه، أو يستند عليه. إنه في موقف لا يُحسد عليه، مُهدد من أعدائه، مُنتقد من أنصاره، مُتهمٌ من جيرانه، يُطلب منه تقديم التنازلات، وليس لديه ما يتنازل عنه. إذا وافق على ما يُعرض عليه، قالوا إنه يُفرط في القضية، وإذا عارض، قالوا له: "خُذ وطالب، هكذا تكون الاستراتيجية". إذا استخدم العُزّل من شعبه الحجارة، دفاعاً عن النفس، قوبلوا بالأسلحة الرشاشة، وإذا أُطلقت طلقة فلسطينية واحدة، كانت إرهاباً وعنفاً، يجب مواجهته بأحدث الأسلحة في الترسانتيْن الإسرائيلية والأمريكية، لقد حرّموا على الضحية حتى أن تجأر بالشكوى قبل ذبحها. ماذا يفعل؟ إذا باع نفر من الفلسطينيين أرضهم هرباً من جحيم العيش، أو بسبب الحاجة والعـوز، قالوا عنهــم: "سلّموا أرضهم لعدوهم وخانوا قضيتهم". وإن امتنعوا عن ذلك وجرّموا مرتكبيه أصبحوا متهمين أمام إسرائيل والولايات المتحدة بالعنصرية والإجرام وإهدار حقوق الإنسان وجُعلوا قضية ومحوراً، لنشرات الأخبار وموضوعات الساعة، وهددتهم إسرائيل بالحصار ووقف المفاوضات، وأعلنت الإدارة الأمريكية معارضتها إعدام السماسرة وهدد الكونجرس بوقف المساعدات. ولم يكلف المسؤولون الأمريكيون أنفسهم مشقة السؤال: "أليس بيع الأرض لليهود تهديداً للأمن الوطني الفلسطيني؟ ألا يجب أن يحاكم من يهدد الأمن القومي لبلده؟ ألا تُعد جريمة تهديد الأمن القومي خيانة للوطن؟ وهل هناك حالة واحدة فقط لبيع أرضٍ من يهودي إلى فلسطينيي؟ وهل ستوافق الحكومة الإسرائيلية على مثل هذا البيع؟ أم إن ما هو حلال لهم مُحرّم على الفلسطينيين؟

كان الله في عون الرئيس عرفات، وليُعِـنِ الله العرب على معرفة طريقهم الصحيح. وبإذن الله، لن تنجح إسرائيل في إحباط الأمة العربية وإذلالها. وبإذن الله، سيكون هناك أمل دائماً: أمل في الله أولاً وأخيراً، ثم أمل في قوتنا الذاتية، وأمل في الأجيال العربية والإسلامية القادمة.

نعم هناك أمـــل.

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة