الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

وإذا نَحَّينا المواقف العربية جانباً، نجد أن نتانياهو لا يريد إلاّ السلام الذي يفرضه على العرب، وهو: الأمن والأرض، والهيمنة والتلويح بالعصا، والغطرسة وتسخير العالم كله لرفاهية إسرائيل وأمانها، وإلاّ أصبح العرب، ومَنْ يؤيّـدونهم، أعداءً للساميَّة وللشعب الإسرائيلي الصغير المسالم، الذي لا يطلب سوى الحياة الآمنة وسط بحيرة من الكراهية العربية! والأدهى من ذلك وأمَـرّ، أن القوة العظمى الوحيدة تتبنّى المواقف الإسرائيلية نفسها، وتردّد الادعاءات عينها، من دون تدبّـر، وتغضّ الطرف عن إسرائيل، وإن اتخذت من السياسات ما يضرّ بمصالحها.

ولنتساءل: لِـمَ تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً مكثّـفة على الدول العربية لحضور مؤتمر الدوحة الاقتصادي، وتطالبها بإنجاحه؟ ولماذا تركّـز على ضرورة مشاركة إسرائيل ، وإلاّ أصبح المؤتمر عديم الجدوى؟ وما مصلحتها في ذلك كله؟ إن أحــد الأسباب الرئيسيـة ـ كما دار على ألسِـنة المسؤولين الأمريكيين أنفسهم ـ هو أن الوقت قد حان لتتخلص الولايات المتحدة من مساعداتها لإسرائيل، بإلقاء هذا العبء على كاهل الدول العربية، وكما أعلن بعض المسؤولين الإسرائيليين، خِـفية: "تكفينا ثروات المنطقة كي لا نمدّ أيدينا إلى الولايات المتحدة"، على الرغم من أن إسرائيل، تعتبر المساعدات الأمريكية حقاً واجباً، وليست تفضلاً، لقاء ما تؤدّيه إلى الولايات المتحدة من خدمات، وما تحقّقه لها من مصالح.

ولعل من العجب، ما تَـدّعيه الولايات المتحدة، أن هدفها: "إيجاد نوع من الثقة والتفاهم بين إسرائيل والبلاد العربية، يساعد على استئناف المفاوضات"، وكأنها أصبحت غايةً، لا وسيلة. ويكفينا أنها "ستُستأنف"، كي نُـهلل ونُقنع أنفسنا أن إسرائيل أوفت بالتزاماتها، فعلينا ـ إذاً ـ أن نلتزم نحن أيضاً ونحضر المؤتمر، ثم نتصافح ونوافق على تنفيذ الطموحات الإسرائيلية برؤوس أموال عربية. وإن لم نفعل ذلك كنّا نحن، لا الإسرائيليون، أعداءً للسلام!! وبعيداً عن تعقيدات المصطلحات الاقتصادية، أليست المشاريع المشتركة، الإسرائيلية العربية، هي توظيفاً لرؤوس أموال عربية، بإدارةٍ إسرائيلية، وتقنيةٍ أمريكية، لمصلحة الاقتصاد الإسرائيلي في المقام الأول؟!

فالسيناريو ـ الإسرائيلي الأمريكي ـ تتكرر مشاهده:

* استيطان يتوسع، جرّافات تَهْـدم، أُسَـر فلسطينية تُشرَّد، الحكم الذاتي يُهدَّد، حوادث عنف تعقبها حوادث عنف مضادّ، كردّة فعل طبيعية، حصار للمدن الفلسطينية، توقف للمفاوضات. هذا هو المشهد الأول.

* أمّا المشهد الثاني، فهو: استنكار عربي شديد، وشجْـب ملتهب، وشعور بالغ بالقلق، وإصرار على عدم عقد المؤتمر الاقتصادي، وشبه صحوة عربية، وإصرار على ضرورة التصدّي للغطرسة الإسرائيلية. وعلى الجانب الآخر، تمضي إسرائيل في سياستها، لتهيئة أفضل الظروف وأكثرها ملاءمة، لفرْض سلام الردع، وتحقيق الأمن، كل الأمن، لإسرائيل وحدها. وكأن المنطقة قد خلت من شعوب لها حق الحياة، العادلة المطمئنة.

* أمّا المشهد الثالث والأخير، فهو: مع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر الاقتصادي، تُعلن إسرائيل عن تخفيف الحصار، والإفراج عن بعض السجناء، والاستعداد لاستئناف المفاوضات. فتتبارى الصحف الأمريكية في تمجيد هذه المواقف وكأنها تنازلات عظيمة يجب أن تُقابل بتنازلات أعظم من جانب العرب، الذين باتوا لا يملكون ما يتنازلون عنه. وتلتقط بعض الأقلام العربية الطُـعْم، وتتسابق إلى إقناع شعوبها بضرورة تغيير المواقف. ومع الضغوط الأمريكية، الصريحة والخفية، تتوجّه الوفود العربية بمستويات مختلفة إلى المؤتمر. وسواء نجح أو لم ينجح، فإن إسرائيل ستربح في كلتا الحالتيْن، ويفتح الأخطبوط الإسرائيلي أذرعه لتلف الأمة العربية وتعتصرها.

هلّت علينا أحداث المشهد الثالث بالموافقة الإسرائيلية على فتْـح باب التفاوض، وتصريح دنيس روس: "إن مبدأ تجميد بناء المستوطنات بشكل أو آخر قد قُبِلَ من الجانب الإسرائيلي"، ثم بتصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي: أنه "مستعدّ لتقديم تنازلات عن أراضٍ في مرتفعات الجولان المحتلة"، ثم الإفراج عن السجناء في صفقات متبادلة، وتصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي: أنه يتوقع "تسوية للوضع النهائي للأراضي الفلسطينية في غضون سنة". ثم قرار الإفراج عن جزء من أموال الضرائب والجمارك المستحقة للسلطة الفلسطينية، وقدرها 49 مليون دولار، وبقية الأحداث تتوالى كلما اقترب موعد انعقاد المؤتمر.

ـ سيناريو، كريهة أحداثه، تَـكرّر حتى الآن ثلاث مرات، وقد يتكرر للمرة الرابعة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

ولنتذكّـر الأحداث التالية، ومعظم الدول تتجه إلى المؤتمر لسبب أو لآخر، حتى لا ننسى:

* مجزرة الحرم الإبراهيمي، عام 1994.

* عملية "عناقيد الغضب" ومذبحة "قانا"، عام 1996.

* فتْـح نفق "البراق" أسفل المسجد الأقصى، عام 1996.

* بناء حي استيطاني يهودي جديد في جبل "أبو غنيم" في القدس الشرقية، في مستهل العام الحالي.

* مواجهات دامية بين الفلسطينيين والقوات المسلحة الإسرائيلية المدجّـجة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، في الخليل وبيت لحم، خلال شهرَي يونيه ويوليه الماضييْن.

* احتلال المستوطنين للمنازل في رأس العامود، وتوسيع مستوطنة     افرات بين بيت لحم والقدس.

* إسرائيل لا تزال قابعة في الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967.

* قبولنا لتعبير Time-out، في شأن بناء المستوطنات وتوسيعها، هو اعتراف عربي ضمني بحق الإسرائيليين في ذلك.

* أخيراً، وليس آخراً، علينا ألاّ ننسى ما يفعله شارون، في هدوء وبلا ضجة، مندفعاً بكل طاقته وأقصى سرعته، وكأنه في سباق مع الزمن، لتغيير ديموجرافية الأراضي المحتلة وفرض الأمر الواقع. نأمل ألاّ ننسى أن الزمن ليس في مصلحتنا، فكل يوم نخسر أرضاً ونزداد فُـرقةً.

إذا نسينا وانعقد المؤتمر، ثم نجح نتانياهو ـ فيما بعد ـ في فرض سلام الردع، الذي يسعى إليه ويخطط له، متّـشحاً بقوة اللوبي الصهيوني، متسلحاً بترسانة الولايات المتحدة، مهدداً بأسلحته النووية، فلن ينجح ـ بمشيئة الله ـ في تحقيق الأمن والأمان لشعبه، ما دام محتلاً لأرضٍ، مغتصباً لحقٍ. فلا دولة عربية تقبل بمثل هذا السلام. ولن يمسي سلاماً آمناً دائماً، إلاّ إذا كان عادلاً شاملاً.

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة