الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الرابعــة
بعنوان

هل الغضب وحــــــده يكفي؟

نُشرت في جريدة "الحياة"
السبت: 29/10/1417هـ الموافق 8/3/1997


بسم الله الرحمن الرحيم

أصدرت اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون القدس برئاسة بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، في جلستها التي عقدت في السادس والعشرين من فبراير، قراراً بالموافقة على تنفيذ خطة لبناء حي استيطاني يهودي جديد يشتمل على 6500 وحدة سكنية في جبل أبو غنيم في القدس الشرقية. وعلى الفور، صدرت التصريحات النارية من جميع المسؤولين في الدول العربية والإسلامية، كما يحدث كل مرة، من استنكار وشجب وإدانة وشعور بالقلق وتحذير من احتمالات تجدد أعمال عنفٍ. هنا أتوقف لأتساءل: هل الغضب وحده يكفي؟ وهل السيد نتانياهو فاجأنا بهذا القرار؟ وهل وعد هو شخصياً بخلاف ذلك، سواء في حملته الانتخابية، أو بعد نجاحه وتولّيه رئاسة مجلس الوزراء، أو في كل تصريحاته وبياناته، أو حتى في كتابه الذي أصدره عام 1993 بعنوان: موقع بين الأمم، إسرائيل والعالم،A Place Among The Nations, Israel And The World؟

قبل أن أسترسل في مقالي هذا أعترف أنني لا أدّعي امتلاك موهبة فنّ "الكتابة الصحافية"، فلهذا الفنّ رجاله. ولكن الظروف، أحياناً، تُجبر الإنسان على أن يقول كلمة، أو يطلق صرخة، أو يصدر تحذيراً، أو ينبه من غفلة، أو يشير إلى موضع خلل. إن النقد الذاتي ـ كما لا يخفى على أحدٍ ـ هو من أصعب أشكال الكتابة، لذلك يعدّه بعض المحللين تعذيباً للنفس، ولكنه، من وجهة نظري، بداية العلاج، إن كنّا جادين في العلاج.

أتى الرجل إلى الحكم يسبقه تاريخه السياسي، وكتابه الذي ملأه بأفكاره وتحليلاته ورؤيته المستقبلية، ووعوده الانتخابية التي تطابقت تماماً مع ما كتبه. ولكن كم مسؤولاً في المواقع المختلفة من عالمنا كلّف خاطره وقرأ  الكتاب وحلّله واستقرأ منه المستقبل الذي ينتظر المنطقة؟

وبصرف النظر عن رؤيتي إلى ما كتبه ومعارضتي له كلية، فإنني أقول كلمة حق ـ في حق الرجل ـ هي أنه كان واضحاً منذ البداية، ولم يخدعنا. واسمحوا لي ألاّ أستخدم صفات المتعنت، أو المغرور، أو المتغطرس، أو الكاذب، أو الخادع، لكراهيتي للتجريح الشخصي، وأفضل دائماً انتقاد الأفعال والأقوال، ثم أترك للقارئ الحكم على الصفات الشخصية. أقول إنه لم يخدعنا ولم يعدنا، نحن العرب، بخلاف ما ينفّذه. ولنضرب على ذلك عدة أمثلة:

أولاً: أورد في كتابه، عام 1993، قبل انتخابه بثلاث سنوات، النقاط التالية:

  1. إن السلام الوحيد الذي يمكن أن يسود بين إسرائيل والدول العربية هو "سلام الردع"، الذي يجعل هذه الدول تخشى المواجهة خوفاً من الهزيمة فيسود السلام. وإن من شروط نجاح هذا النوع من السلام، أن تكون إسرائيل قوية جداً والدول العربية ضعيفة جداً. وأن تكون كل أنواع الأسلحة في حوزة إسرائيل، على أن تنزع هذه الأسلحة من الدول العربية. وبذلك يتحقق السلام.
  2. إن سيطرة إسرائيل على أراضي يهودا والسامرة وهضبة الجولان هي الرادع الذي يحول دون قيام حرب شاملة، وهي التي تجعل السلام أكثر احتمالاً من أي وقت مضى.
  3. وعن السلام الدائم قال: "إن الأمن الكامل لإسرائيل هو العمود الفقري للسلام"، والضمانات الدولية ضرورية، ولكنها لن تُغني عن الاعتماد على القدرة الرادعة الإسرائيلية. أمّا عرب يهودا والسامرة، فليس لهم حق في إقامة دولة فلسطينية، وموضوع القدس غير قابل للتفاوض، فالقدس عاصمة إسرائيل لمدة 12 قرناً!! ولا يوجد ما يُسمى بـ "عرب القدس الشرقية"، ويمكن منح الحكم الذاتي لعرب يهودا والسامرة، وهذا يعني أن تكون المجالات التالية تحت السيطرة الإسرائيلية من دون منازع، وهي: الأمن، والشؤون الدفاعية، والشؤون الخارجية، والسيطرة على العُملة والتجارة الخارجية، والتحكم الكامل في المصادر المائية، بينما يُدير العرب المجالات الأخرى لتصريف شؤون حياتهم اليومية، في ظل ممارسة إسرائيل لأقصى إجراءات الأمن. وحق إسرائيل في السيطرة العسكرية يعني السيطرة على أراضي الدولة كلها، بما فيها حرية الحركة على كافة الطرق والدخول إلى أي منطقة، حتى إذا كانت مأهولة بالسكان. أمّا الحكم الذاتي، فيكون في المناطق المأهولة بالسكان فقط، وليست الأرض من بينها.

ثانياً: جاء برنامجه الانتخابي مطابقاً لما عبّر عنه في كتابه، فلم يَعِد الفلسطينيين أو السوريين أو اللبنانيين وعوداً تخالف أو تخرج عمّا ورد في مؤلفه، فتطابق البرنامج الانتخابي مع آرائه في الكتاب من دون تناقض. وكان الواجب علينا أن نعي أنه "إسرائيلي" كان يهيّئ نفسه في ذلك الوقت ليُـنتخب رئيساً لوزراء إسرائيل، وليس من المنطقي أن يَعِد بأي امتيازات أو إعادة لحقوق العرب. ولم يكن ردّ فعلنا سوى إصدار صيحات الاستنكار لهذه الوعود.

ثالثاً: عند انتخابه أكّد "لاءاته" التي تداولها، وراوح عددها ما بين ثلاث "لاءات" وثمانٍ، وهي: لا للدولة الفلسطينية، ولا للتخلي عن مرتفعات الجولان ، ولا لتقسيم القدس، ولا لعودة اللاجئين، ولا لمبادلة الأرض بالسلام، ولا لإعادة انتشار القوات بتخفيضها أو سحبها، ولا لوقف بناء المستوطنات، ولا للانسحاب من جنوب لبنان ، إذاً، الرجل لم يتغير أو يتبدل، وعندما اعترضت الدوائر العربية، وبعض الدوائر الغربية، على "لاءاته"، قال في تصريحه الشهير: "أنا أدرى بالعرب منكم، دعوني وشأني معهم، فهم يثورون ويغضبون ثم يهدأون أمام القوة والإصرار، ثم يتكيفون ويقبلون الأمر الواقع". ولم نعلق إلا بصيحات الشجب والإدانة.

رابعاً: وقبل مغادرته إسرائيل في زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة، في التاسع من يوليو الماضي، قال: "سأبلّغ الرئيس كلينتون الأشياء الأساسية نفسها التي وعدت بها الناخب الإسرائيلي، ولن أغيّر من قناعتي الراسخة أو من تعهداتي الأساسية التي قطعتها على نفسي، ولن أحاول تملّق أحد. أمّا العرب، فقد بدأوا يتكيفون مع الوضع الجديد، الذي خلقته، ومع سياستي، والفلسطينيون والسوريون وغيرهم سيقبلون بالأمر الواقع ويغيرون مواقفهم". وأمام الكونجرس الأمريكي، أكّد "لاءاته" الثلاث المشهورة، التي استحق عليها التصفيق 14 مرة. أمّا نحن، فلم نغضب لا من إسرائيل ولا من الكونجرس الأمريكي.

خامساً: فتح نفق "البراق" أسفل المسجد الأقصى، فماذا حدث؟ مظاهرات وصدامات عنيفة وشبه انتفاضة صغرى، و83 قتيلاً وعشرات من الجرحى، وبعدها هدأ كل شيء. واستمر الرجل في سياسته وإصراره على تنفيذها كاملة. وتحدى العالم كله، من ناشدوه إغلاق النفق ومن لم يناشدوه، من أطلق التصريحات النارية، ومن أطلق العبارات الغامضة! وأعلن بكل ثبات: "إن النفق لن يُقفل". وعندما أرادت الولايات المتحدة التلويح له، ولو من بعيد، بعدم رضائها عن توقيت هذا الإجراء، قال: "إنني مستعد للتضحية بالعلاقات الاستراتيجية بأمريكا إذا أصبحت هذه العلاقات سبباً في تقديم تنازلات للعرب". ومن ثمّ، تراجعت الولايات المتحدة ولم تعلّق. ولم يستمر غضبنا طويلاً، ونسينا الموضوع.

سادساً: وبدأت مفاوضات إعادة الانتشار في الخليل، وأخذت ما أخذت من شدّ وجذب، ووعود وآمال، وتصريحات وتهديدات وخطابات ضمانات، ونصوص سرّية وأخرى علنية (ولموضوع "الخليل" مقال آخر بإذن الله)، وانتهت باتفاقية ظالمة للجانب الفلسطيني، ولكنها تصبّ في الاتجاه نفسه الذي أعلنه منذ عام 1993 في كتابه. وأصرّ الرجل على عدم التراجع "قيد أنملة" (كما يقول أهل اللغة) عمّا أعلنه وعمّا يؤمن به وعمّا يسعى إلى تنفيذه. ولم نغضب، وتبارت بعض الأقلام في تمجيد ما زعم أنه تنازل عنه، وما وافق عليه في الاتفاقية، وزادت هذه الأقلام وقالت: "إننا أجبرناه على تغيير سياسته وروّضناه". وبدأت بعض العواصم تفتح أذرعها لاستقباله استقبال الأبطال. والحقيقة أن أفكاره لم تتغير، وتصرفاته لم تتعدل، وتصريحاته لم تتبدل، فقد أخذ كل شيء ولم يتنازل عن شيء. أليس هو القائل، عشية توقيع الاتفاقية: "إننا لن نترك الخليل، سوف نبقى في جميع أنحاء المدينة التي يوجد فيها يهود، ولن يكون هناك رجال شرطة فلسطينيون مسلحون قرب الحي اليهودي من دون موافقتنا"؟

سابعاً: ثم زار واشنطن للمرة الرابعة، ولم يغير موقفه وأصدر تصريحاته التي تتفق مع أقواله السابقة وأفعاله، وأعلن للمرة العاشرة "لاءاته" المشهورة، وقال إن "القدس لن تكون موضع تفاوض، وليكن هذا معلوماً بشكل نهائي"، وإن "هضبة الجولان ليست قطعاً موضوع تفاوض، لأسباب إستراتيجية وتاريخية واقتصادية، فربع ثروات إسرائيل المائية مصدرها الجولان. ويمكن أن نعيش من دون نفط، ولكن لا يمكن أن نحرم أنفسنا من المياه". وللمرة الأولى نسمع من وزيرة خارجية الولايات المتحدة، في الحادي عشر من فبراير الماضي، عبارة "السلام الآمن الشامل الدائم Secure, comprehensive, and lasting peace"، بدلاً من "السلام العادل الشامل الدائم". ولم نغضب، ولم نقل لراعي السلام: هل توافق على ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي أمامكم، وعلى ما أعلنته السيدة مادلين أولبرايت؟ أَوَليس ما يحدث في المنطقة نتيجة حتمية لِمَا تعلنه الولايات المتحدة، في كل مناسبة، من أنها تضع "أمن إسرائيل، وتفوقها العسكري على كل الدول العربية مجتمعة، على رأس أولوياتها الإستراتيجية"، وأضحت هذه العبارة افتتاحية كل كلمة لأي مسؤول أمريكي؟!

ثامناً: للأسف الشديد، إننا نعتبر السيد نتانياهو الرجل الخطير في إسرائيل ، والمحبط الوحيد لآمال الفلسطينيين والعرب، ولم نشر كثيراً إلى من هو أخطر منه في الأفعال، وهو إريل شارون، زعيم الجناح المتشدد في اليمين الإسرائيلي وقائد عمليات الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي شُكّلت له وزارة خاصة بميزانية منفصلة تُقدر بالمليارات من الدولارات تعنى بالبنية التحتية، وهو اسم ملطّف لـوزارة "الاستيطـــان وضم الأراضي". هذا الرجل لا يتحدث كثيراً، فهو يعمل ويعمل فقط، بأكمل طاقة  وأقصى سرعة وكأنه في سباق مع الزمن، لتغيير ديموجرافية الأراضي المحتلة بإنشاء مستعمرات جديدة، وتوسيع المستعمرات القائمة، والاستيلاء على أرض العرب، وحفر الأنفاق، وشق الطرق التي تصل بين المستعمرات أو تلف المدن العربية ومد خطوط حديدية وإقامة جميع التسهيلات لاستقبال مهاجرين جدد، وعزل المدن الفلسطينية لتصبح "كانتونات منعزلة". وإذا تحدث شارون أطلق من فمه كلمات وقذائف، أقل ما توصف به أنها تخرج عن قواعد اللياقة الأدبية أو السياسية.

ولنعد إلى ما بدأت به هذا المقال، هل الغضب وحده يكفي؟ وتزداد التساؤلات: هل هذا الغضب وهذه الانفعالات يمكن أن تؤدي إلى أي نتائج؟ وهل يمكن أن نربط بين فتح النفق وزيارة الرجل الثانية إلى واشنطن وبين قرار إنشاء المستوطنة في القدس الشرقية وزيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة؟ ولِمَ يتحدث السيد نتانياهو بهذه الصراحة المفرطة في الثقة، وينفذ ما يُعلن عنه، بأسلوب يستفز مشاعرنا؟ وهل العيب فيه أو فينا كعرب "مسلمين ومسيحيين"؟ وهل يحق لنا أن نغضب من السيد نتانياهو أو نغضب من أنفسنا؟ وهل يحق لنا أن نحاسبه على أفعاله أو نحاسب أنفسنا على أفعالنا التي يجب أن تتفق مع أقوالنا؟ أسئلة لن يحار المنطق في أن يجد الإجابات المناسبة عنها.

ولعلّ أبلغ تعبير أختم به مقالي هذا هو قول الحق ـ سبحانه وتعالى: الصف آية 2-3يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، وقوله:آل عمران آية 103واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا

وإلى اللقاء في مقال آخر.

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة