القيادة الموازيَة (تابع)

          بعد وصول شوارتزكوف وأركان قيادته بوقت قصير، تداولنا الآراء في شأن مواقع نشْر القوات الأمريكية التي تصل إلى المملكة. ووضعنا نصب أعيننا الاعتبارات الإستراتيجية، بالإضافة إلى ضرورة تأمين الطعام والإيواء، وشؤون الإمداد والتموين الأخرى اللازمة لتلك القوات. وفي سياق مناقشاتنا، أبدى شوارتزكوف رغبته في نشْر لواءٍ أمريكي في مدينة الرياض نفسها خشية أية مشكلة قد يواجهها.

          تبادر إلى ذهني على الفور أن شوارتزكوف يضع في حسبانه مواجَهة "أسوأ الاحتمالات". فتكون مهمة اللواء الأمريكي في الرياض، في هذه الحالة، هي حماية قيادته. قلت في نفسي ليس غريباً ألاّ يشعر بالأمان، فوجوده في بلد غير بلده يحرمه الإحساس بالاطمئنان الذي أشعر به. وفكرت، بعد ذلك، أنني لو كنت مكانه لفعلت الشيء نفسه، ولأردت أن أشعر بالطمأنينة بوجود لواء متمركز بالقرب منّي وتحت تصرّفي خشية أي طارئ،
            لا سيما أن جيوش صدّام لا تبعد عني إلا مسيرة بضعة أيام.

          ولكي أعطي نفسي فرصة التفكير، قلت لشوارتزكوف: "دعنا نواصل مناقشة الموضوع في اجتماعنا القادم في اليوم التالي". وبعد أن قلَّبت الأمر على جميع وجوهه، تذكرت فجأة أن الملك خالداً - يرحمه الله- كانت له مزرعة تسمى "الثمامة" تبعد عن الرياض مسافة 60 كيلومتراً تقريباً، ثم أصبحت، بعد ذلك، متنزهاً عاماً. وهي تحتوي عدداً من المباني ومدرجاً صغيراً للطائرات. وهكذا، بدت المزرعة أنها المكان المثالي لهذا اللواء. فالمسافة بين شوارتزكوف ورجاله لا تزيد على نصف ساعة في السيارة، ومع ذلك سيكونون بعيدين عن الأنظار. عرضت الفكرة على شوارتزكوف فرحّب بها على الفور. وظل اللواء في المزرعة طوال فترة الأزمة، ورجاله يتمتعون بالراحة التامة حتى عادوا إلى بلادهم دون أن يطلقوا رصاصة واحدة.

          ربما كنت مفرطاً في حساسيتي تجاه حماية قيادتي من كل ما يمكن أن يُعَـدَّ تدخلاً أمريكياً، مهْما كان ضئيلاً. وأذكر ذات مرة أنني تلقيت مكالمة هاتفية علمت خلالها أن شوارتزكوف سيتوجَّـه شمالاً في جولة تفقدية للقوات في حفر الباطن. كان ذلك مفاجأة لي، فالقوات الأمريكية الوحيدة هناك لا تزيد على أطقم بعض الطائرات العمودية ووحدة استخبارات! كان لشوارتزكوف مطلق الحرية في زيارتها في أي وقت يريد. لكني علمت، فيما بعد، أنه ينوي زيارة اللواء العشرين التابع لقيادتي. وهنا، استشطتُ غضباً لأنه لم يخبرني بذلك. فما الذي كان يقصده شوارتزكوف من زيارته تلك؟

          أصدرت تعليمات إلى ضباط أركاني ليخبروا ضباط أركانه أني لا أسمح له بتفقد قواتي. عاد ضباطي ليؤكدوا لي أن شوارتزكوف لم يطرح قط مثل تلك الفكرة، فالذي حدث هو أن قائد المنطقة الشمالية في حفر الباطن، حين سمع بمقدم شوارتزكوف، اتصل بمكتبه لدعوته إلى الغداء في مركز قيادة اللواء وزيارة بعض الوحدات في الميدان. لم يفعل القائد السعودي أكثر من اتباع قواعد الضيافة العسكرية تجاه ضيف كبير. ولكن لو كان الزائر شخصاً آخر، أو كان شوارتزكوف هو نفسه في ظروف عادية، لَمَا اعترضت. ولكني لن أسمح لشوارتزكوف شخصياً، وفي ذلك الوقت بالذات. فالسماح له بتفقّد قواتي يعني أنه هو القائد الأعلى. وهذا ما لا أقبله أبداً.

          وأصدرت أوامري: "اطلب لي قائد المنطقة بالهاتف فوراً".

          فسألني: "ماذا في وسعي أن أفعل؟".

          قلت له: "الغ زيارته للقوات السعودية. دعه يَزُر قواته. وادْعُه إلي الغداء في نادي الضباط. وهَذا يكفى".

          وأضفت أنه إذا رغب شوارتزكوف في أن يتوجّه إلى الحدود الكويتية، مثلما يفعل كل من يزور المنطقة، فيجب أن يذهب أحد في رفقته.

          جاء شوارتزكوف لرؤيتي مساء ذلك اليوم. وحَرصَ على أن يشرح لي أنه لم يتعمد التعدي على قيادتي. ولكن كانت لديه قصة أخرى مثيرة للاهتمام. إذ قال لي: "لم أستطع النوم قبل أن أخبرك بهذه القصة". فبعد تناول طعام الغداء مع قائد المنطقة، توجّه شوارتزكوف إلى الحدود كي يرى الهيئات الأرضية التي ترسم معالم الحدود، إذ لم يكن قد رآها من قبل. وتوقف في أحد مراكز حرس الحدود.

          قال له الملازم، قائد المركز: "انظر هناك. تلك العربة عراقية"

          صاح شوارتزكوف وهو يجول ببصره في الأفق: "أين؟"

          فقال الملازم، وهو يشير إلى عربة لا تبعد سوى عشرة أمتار: "هنا، في موقعنا". كان في العربة ثلاثة جنود عراقيين جائعين جاءوا يلتمسون طعاماً.

          فوجئ القائد الأمريكي بهذا المشهد. كانت رؤية العدو على هذه المسافة القريبة مفاجأة غير متوقعة له. أخبرت شوارتزكوف أنني أشجّع جنودي على مداومة الاتصال بالجنود العراقيين على الحدود. كنت أقصد أن يأتوا إلى مواقعنا لرؤية الطعام الوفير لدى جنودنا. أردتهم أن يتآخوا. فهم إخوة لنا قبل كل شيء. حتى إنني طلبت من جنودي أن يقدّموا إلى الجنود العراقيين صندوقاً من الفاكهة أو بعض الهدايا الأخرى، من هذا القبيل، قبل عودتهم إلى مواقعهم. ومن المؤكد أن هذا الموقف سينال من معنوياتهم ويضعف عزيمتهم على القتال.

          وفي يوم 20 أكتوبر، قمت بأول زيارة للقوات الأمريكية في الميدان، بناء على دعوة من شوارتزكوف الذي أراد أن يطلعني على درجة الاستعداد القتالي لقواته. تقابلنا في الظهران للاستماع إلى إيجاز قدمه قائد الفيلق الثامن عشر. وفي صحبة شوارتزكوف وقائد الفيلق، توجَّهنا شمالاً، لأكثر من ساعة، في طائرة عمودية من نوع بلاك هوكblak hawk إلى مركز قيادة الفرقة 24 مشاة آلية. كنت احتفظ لهذه الفِرقة بمشاعر خاصة لأنها بدباباتها m1 وعرباتها المدرعة برادلي، كانت من أولى الوحدات الثقيلة التي وصلت إلى الدمام في منتصف سبتمبر، بعد ما قطعت رحلة طويلة على متن سفن النقل السريعة من سافانا في ولاية جورجيا كان علينا تموينها ريثما تصل وحدات الإسناد الخاصة بها. كانت هذه الفِرقة التشكيل الرئيسي في خطة الدفاع المتحرك التي وضعها شوارتزكوف، لأنها مدربة على حرب الصحراء وقادرة على صد أي هجوم عراقي على "طريق التابلاين" أو شن هجوم مضاد على جناح أي قوات عراقية تتقدم على امتداد الساحل الشرقي.

           وعندما حان وقت صلاة الظهر، تأثرت كثيراً حين وجدت أن الفِرقة أعدت لي ولضباطي المرافقين مكاناً للوضوء وأداء الصلاة. كان هناك جندي أمريكي يحمل في يده إبريقاً من الماء.

سابق بداية الصفحة تالي