هُدوء العاصفة (تابع)

          كان النهج الذي سلكته في تعاملي مع وسائل الإعلام، هو معاملة المراسلين على، أسُس من الصراحة والاحترام، فضلاً عن مراعاة حقِّهم في أن يعرفوا كل شيء، بما لا يَمَس أمْن وسِرِّية العمليات العسكـرية. فإن كانت الصحافة هي المسوَّدة الأولى للتاريخ، فحرمان الصحفيين من المعلومات والأخبار يعنى جفاف منابع التأريخ.

          في بداية الأزمة، ومع تصاعد الأحداث، تعرضت لشيء من الضغوط للموافقة على مقابلة تليفزيونية يجريها معي تيد كابيل ted koppel في برنامجه نايت لاين night line تُبَث على الهواء مباشرة. كان اللقاء ناجحاً، على الرغم من أنها المرة الأولى لظهوري أمام كاميرات التليفزيون ، مما شجعني على لقاء المراسلين بعد ذلك. ويطيب لي أن أشيد بلباقة تيد كابيل وكياسته في إدارة ذلك اللقاء.

          وأثناء الحرب، قدمت أحاديث تليفزيونية إلى عدد من المراسلين الأمريكيين أخـصُّ منهم جون سويني من شبكة cnn وفورست سوير forest sawyer من شبكة abc news; وإد برادلي ed bradley من شبكة cbs، وكلهم يستحقون الإشادة. وعلى الرغم من أن أسئلة سويني كانت حساسة، إلاّ أنه نجح في تقديم صورة لشخصيتي، أعتقد أنها كانت منصِفة. وبعد أن التقيت فورست سوير أثناء تسجيلى برنامج نايت لاين ، كتب لي خطاباً لطيف العبارات راجياً فيه إجراء مقابلة معي. فاستجبت لطلبه، ودعوته إلى تناول وجبة معي في غرفة الطعام الخاص المُلحَقة بمكتبي في وزارة الدفاع. طلب إليّ، في ذلك الاجتماع، السماح له بالتحليق في طائرة f - 15 أثناء تنفيذها لمهمة جوية قتالية. ولعله دُهش حين رآني أرفـع سماعة الهاتف وأصدر الأوامر بذلك على الفور. كما حَلّق مصوّره في طائرة أخرى مرافقة. ولم يسبق، من قبل، لقوات جوية، بما في ذلك القوات الأمريكية، أن سمحتْ لمراسل صحافي بالتحليق في طائراتها أثناء تنفيذها غارة جوية. وعندما حان الوقت لتحرير دولة الكويت ألحَقْت سوير على الوحدات المتقدِّمة، وسهلت له اصطحاب الهوائي اللازم للاتصال بالأقمار الصناعية ، ليتمكن من إرسال تقاريره على الهواء مباشرة من داخل الكويت وأعتقد أنه كان أول إعلامي أمريكي، في ذلك الوقت، يقوم بمثل هذا العمل.

          وبعد معـركة الخفجي مباشرة، خصَّص إد برادلي حلقة كاملة من برنامجه "ستون دقيقة sixty minutes". للحديث عن الحرب. وكان قد زار أرض المعركة، وقابل اللواء سلطان المطيري، ثم أجرى مقابلة معي في الرياض، هي المقابلة الأولى التي يجريها مراسل غربي في غرفة الحرب في وزارة الدفاع. وأتذكر أننا قمنا بتغطية الخرائط والمخططات والجداول المعلَّقة على جدران الغرفة، خشية تسرُّب أية معلومات سرِّية.

          وأثلج صدري ما علمته عن التقييم الذي قدَّمه جوناثان التر gonathan alter كبير محرري نيويورك تايمز new york times. إذ قال في برنامج national public radio "كانت السلطات العسكرية السعودية أقرب إلينا، وأكثر تعاوناً، واستعداداً لإطلاع المراسلين الأمريكيين على الأخبار الحقيقية، مقارنة بالسلطات الأمريكية... وتمكَّنتْ مجموعات من المراسلين من زيارة أرض المعركة لتشاهد عن كثب ما يجري في الميدان، في حين كانت ثمة شكاوى كثيرة من المراسلين، ذكر بعضهم أن الأمريكيين أخذوهم في الاتجاه المعاكس لمواقع القتال الحقيقية". جاءت ملاحظات جوناثان ألتر هذه لتؤيد وجهة نظري إلى أنّ منْع الصحفيين من الحصول على المعلومات، لا يأتي بنتائج إيجابية.

          حازت جوديث ميللر gudith miller من نيويورك تايمز على تقديري لإلمامها بالشؤون العربية، كما حاز على التقدير نفسه زميلها مايكل جوردون micgael gordon لمعرفته بالشؤون الدفاعية، على الرغم من أن بعض ما كتباه عنّي لم يسعدني بالقدر الذي كنت أتوقعه أو أرغب فيه. ومما أثار اهتمامي، على الصعيد الأكاديمي، هو الحوار الذي دار مع المحلِّل العسكري المرموق أنتوني كورديسمان anthony cordesman ( كان يعمل، آنذاك، مستشاراً لشبكة abc )، كما أعجبتني كتاباته اللاحقة عن حرب الخليج.

          كنت دوماً أشعر بأن الصحافة العربية. باستثناء القليل منها. متأخرة عن الصحافة الغربية، وتحتاج إلى إنعاش وتجديد. وكنت آمل أن أساهم في هذا المجال. وسنحت لي هذه الفرصة عام 1988، حين علمت بمشروع إعادة إصدار جريدة "الحياة"، وهي صحيفة يومية لبنانية شهيرة، أسسها كامل مروة عام 1946. فقد أغتيل في مكتبه عام 1966، إلاّ أن الصحيفة واصلت الصدور، ولم تَحتِجب إلاّ عام 1976، إثر الحرب الأهلية اللبنانية. وفي غمرة الصراعات السياسية والأيديولوجية، التي دارت في حُقبة الستينات بين التيار الناصري "الراديكالي"، للقومية العربية، والتيارات المعتدلة والمحافظة بين قادة العرب، مثل الملك فيصل، وقف كامل مروة ، رئيس تحرير "الحياة" ، بكل شجاعة يساند الطرف المعتدل، ولا ريب أنه دفع حياته ثمناً لذلك الالتزام. ( كانت المرة الأولى التي أظهر فيها على صفحات "الحياة" في أواخر الستينات، حين نشرت الجريدة صورتي، وأنا ما زلت طالباً في أكاديمية ساندهيرست وكنت وقتها في طريقي إلى الرياض مروراً ببيروت، واحتفظتُ بقصاصة تلك الصورة سنوات عدة ).

          كان المحرك الأساسي وراء إعادة إصدار "الحياة" جهود كل من جميل مروة ، ابن كامل مروة ، والصحفي المرموق جهاد الخازن الذي سبق أن أصدر، بنجاح، صحيفة عربية يومية أخرى، هي الشرق الأوسط . ولإعجابي بهذا الفريق، وافقت على تمويل المشروع، مع طموحي منذ البداية إلى تأسيس صحيفة عربية يومية مستقلة، لكل العرب، يمكنها بتغطيتها الإخبارية الواسعة، وسياستها التحريرية الحكيمة، أن تُضارع كبريات الصحف الغربية مثل صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون international herald tribune. والحمد لله، تحقق طموحي إلى حدٍّ كبير، فاستأنفت "الحياة" صدورها وأصبحت واسعة الانتشار وتحظى بالاحترام. وفي عام 1992، قمنا بتوسعة مجموعة النشر بإصدار المجلة الأسبوعية "الوسط" . وتمكَّنت بعد تقاعدي، من الخدمة العسكرية، في أعقاب حرب الخليج، أن أكرس جزءاً أكبر من وقتي للمهمة الشاقة والممتعة في الوقت نفسه، مهمة مالك المؤسسة الصحفية.

سابق بداية الصفحة تالي