الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الثانية عشرة
بعنوان

يفتعل أزمة ... لِيَجْلِب ضربة

نُشرت في جريدة "الحياة"
الإثنين، 19/10/1418هـ الموافق 16/2/1998م


بسم الله الرحمن الرحيم

سجلٌّ حافلٌ من الاعتراضات والتصعيد، ثم التراجع والرضوخ. بعضها يحدث من دون إطلاق طلقة واحدة، والآخر بعد حلول العقاب. وعقب كل حالة، تزداد شعبيته، ويلتف الشعب العراقي حوله، مرغماً، فلا يوجد، ولا يُسمح أن يكون هناك بديل غيره. أَلِهذا يفتعل الأزمات، ويجلِب الضربات، فيدفع الشعب الثمن، ويعاني الويلات؟

من المؤكد أن الرئيس صدّاماً يعلم، بعد درس "عاصفة الصحراء"، وإجباره على الانسحاب من دولة الكويت أن المجتمع الدولي لن يسمح له، ولن يتهاون معه، عند الخروج على الشرعية الدولية. ولن يثق به، أو بوعوده التي يقطعها على نفسه. وأن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لن ترضخا للمأزق، الذي وضع فيه نفسه أولاً والمنطقة والعالم بأسره ثانياً. ولن ترضيا بخروجه بمظهر المنتصر، ولو إعلامياً أو دعائياً فقط. ولن تَقْبَلا بالحلول الوسط، أو بأقل من تحرك فِرق التفتيش على أرض العراق كله بحرية كاملة، من دون قيد أو شرط. ولن ترضيا بأن يتمتع، من جديد، بأي وضع إقليمي، يمنحه القدرة على التحرك والمناورة، وبسط النفوذ والتأثير في الأحداث والقرارات. ولن تسمحا أن يعود العراق قوة إقليمية، يدخل ضمن معادلة التوازن في المنطقة. فَلِم التحدي في كل مرّة، والتراجع في آخر لحظة، أو التلذذ بالضربة، إذا حدثت؟ هل تهون أرواح الشعب العراقي عليه إلى هذه الدرجة؟ وهل هو سعيد ببقائه متربعاً على سدة الحكم، آمناً مطمئناً، بعد أن أُغلقت الحدود، وأصبح لا يُسيطر إلاّ على ثلاث أو أربع درجات عرضٍ من بلاده، وتُنتهك أراضيه من الشمال، ويُحظر عليه الطيران فوق الجنوب والشمال؟

ولنستعرض معاً جزءاً مختصراً من وقائع السيناريو المُمِل، الذي تتكرر مشاهده، من دون تغيير، في الماضي والحاضر.

المشهد الأول، ديسمبر 1992ـ يناير 1993

في 27 ديسمبر، يتحدّى صدّام منطقة الحظر الجوي باختراق طائرتين عراقيتين لها، فتُسقط له واحدة، وتهرب الأخرى. فتُرسل الإدارة الأمريكية حاملة الطائرات "كيتي هوك" والسفن المرافقة لها، على عجل، من الصومال إلى منطقة الخليج، بغية "تأمين قوة ردع إضافية في مواجهة الأنشطة العراقية". وفي 28 ديسمبر، يُعيد اختراق منطقة الحظر الجوي، ثلاث مرّات. وفي مطلع يناير 1993، يحرّك وحدات صواريخ أرض ـ جو قريباً من منطقة الحظر. فيوجَّه إليه إنذار، مدته 48 ساعة، لسحب الصواريخ أو التعرض للإجراءات العسكرية الحاسمة. تنتهي المدة المحددة، ويرفض العراق الإذعان، ويصعّد الموقف، ويمنع طائرات الأمم المتحدة، التي تُقل المفتشين الدوليين، من الهبوط في بغداد فتحشد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قواتها في المنطقة، جاهزة لتوجيه الضربة العسكرية، تأديباً لصدام. وأخيراً، وبعد هذا الحشد، يذعن لطلب الحلفاء، ويسحب صواريخه المضادة للطائرات إلى شمال خط العرض 32.

في ليلة 10/11 يناير، تُصعد بغداد الموقف، مرة أخرى، بشنّها غارتين عبر الحدود مع الكويت ، وتستولي على أسلحة، بينها صواريخ سلكوورم، كان يحرسها مراقبون تابعون للأمم المتحدة. ويستمر الحشد الأمريكي ـ البريطاني ـ الفرنسي. وفي اليوم التالي، يعيد العراقيون التوغل، مرتَيْن، داخل الأراضي الكويتية. فتُعلن الولايات المتحدة، أنها حددت الأهداف العراقية، والضربة قادمة، تنتظر القرار السياسي. وفي 13 يناير، تشنّ مائة طائرة تابعة للقوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، غارات جوية واسعة على أهداف في جنوبي العراق وفي 16 يناير، تتراجع بغداد وتسمح لطائرات الأمم المتحدة بالهبوط، ولكنها تُعلن تشغيل صواريخها، بعد رفضها منطقتَي الحظر الجوي. وفي 17 يناير، تُطلِق البحرية الأمريكية صواريخ كروز، من نوع توماهوك، من سفن في الخليج العربي والبحر الأحمر، على منشأة نووية في "الزعفرانية" ( تبعد 50 ميلاً إلى الجنوب من بغداد). وفي اليوم نفسه، يُسقط الأمريكيون طائرة ميج 29، ويدمرون موقعاً للدفاع الجوي، شمال خط العرض 36.

وفي 21 يناير 1993، يستهل الرئيس كلينتون فترة رئاسته بغارة أمريكية على مواقع لرادارات الصواريخ، بعدما شغّلها العراقيون ضد طائرات دول التحالف، في شمالي البلاد. وبعد 24 ساعة، تُغِير الطائرات الأمريكية على مواقع للدفاعات الجوية في شمالي العراق.

وينتهي المشهد الأول، الذي استمر شهرين، بتراجع العراق وإذعانه لكل ما طُلب منه.

المشهد الثاني، أبريل 1993

أربع طائرات أمريكية، تتعرض لنيران المدفعية العراقية المضادة للطائرات، فتردّ الطائرات الأمريكية على إطلاق النار بإلقاء أربع قنابل عنقودية على مواقع هذه المدافع.

ثم تُغِير طائرة أمريكية على موقع رادار عراقي، جنوب خط العرض 36 في شمالي العراق لأن طاقم الطائرة، شعر بأنه مهدّد نتيجة لتشغيل الرادار العراقي، الذي يقع قرب مطار "القيّارة" العسكري جنوب مدينة الموصل. وينتهي المشهد الثاني، بتعهد عراقي بعدم تشغيل الرادارات في منطقة الحظر.

المشهد الثالث، يونيه ويوليه 1993

ضربة عسكرية أمريكية قوامها ثلاثة وعشرون صاروخ كروز، من نوع توماهوك، ضد مقر الاستخبارات العراقية، تحت زعم رعاية بغداد محاولة اغتيال الرئيس السابق، جورج بوش، خلال زيارته الكويت . ثم تتوجه حاملة الطائرات الأمريكية  "تيودور روزفلت" إلى الخليج، تحسباً لرد عراقي.

ثم يتحدى العراق الحظر الجوي، ويتابع، رادارياً، طائرتين أمريكيتين، كانتا تحلقان في سماء منطقة الحظر، فتطلق طائرة أمريكية صاروخاً، من نوع "هارم"، على رادار في جنوبي العراق .

ثم تتكرر الأحداث، في 24 يوليه 1993، فتُقصف بطارية صواريخ عراقية في منطقة الحظر الجوي جنوبي العراق وتتكرر مرة ثالثة، في 29 يوليه 1993، فتُطلق طائرتان أمريكيتان من البحرية الأمريكية صواريخ جو ـ أرض على موقِعيْن عراقيين للصواريخ المضادة للطائرات في جنوبي البلاد. ثم تهدأ الأمور، ويستجيب العراق للمطالب الدولية.

المشهد الرابع، أكتوبر 1994

يحشد العراق 150 ألف جندي بالقرب من حدوده مع الكويت ، وسط مخاوف من حدوث غزو جديد. فيُواجَه صدّام حسين بإنذار شديد اللهجة من الولايات المتحدة الأمريكية . فيُصعّد الموقف، بفتح باب التطوع أمام الشعب العراقي، ويصرّ على حقّه في تحريك ما يشاء على الأراضي العراقية. فتحشد القوات الأمريكية نحو أربعين ألف مقاتلٍ من الوحدات البرية، و28 قطعة بحرية، وأكثر من 650 طائرة. وتعلن استعداد 155 ألف آخرين للانضمام إلى القتال، عند نشوبه. ويعلن الرئيس كلينتون: "إن أهدافنا واضحة، وقواتنا قوية، وقضيتنا عادلة، وعلى صدام الانسحاب الكامل، وعدم تهديد جيرانه في المستقبل". وفي 10 أكتوبر، يتراجع العراق عن التصعيد، ويبلِغ مجلس الأمن قراره سحب قواته من منطقة البصرة ، القريبة من الحدود الكويتية.

المشهد الخامس، سبتمبر 1996

في الأول من سبتمبر 1996، يرسل الرئيس صدّام حسين قواته إلى شمال خط العرض 36، لتهاجم مناطق كردية، مخترقة بذلك منطقة الحظر. فتوجِّه الولايات المتحدة ضربة صاروخية، مُستهدِفةً مواقع عسكرية في جنوبي العراق ، وتقرر توسيع منطقة الحظر الجوي فوق الجنوب العراقي. ورأى وزير الدفاع الأمريكي، آنذاك، وليم بيري، في هجوم القوات العراقية على أربيل، تهديداً لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية. وكالعادة، يتراجع صدّام حسين ويبدأ سحب قواته من شمالي العراق. وفي 11 سبتمبر، يطلق العراق صواريخ سام ـ 6، في اتجاه طائرتين أمريكيتين، تحلقان فوق شمالي البلاد، وتخرق طائرة عراقية الحظر الجوي في الجنوب. فتستعد واشنطن لتوجيه ضربة أخرى، ويصل المزيد من الطائرات الأمريكية إلى المنطقة. ومرة أخرى، يتراجع العراق ويتعهد بعدم التصدي للطائرات الأمريكية.

وهنا، نصل إلى المشهد الأخير، الذي بدأ في نهاية أكتوبر 1997، مع بوادر المشاكل مع فِرق التفتيش. فتتصاعد الأحداث، وتُحشد الآلة الحربية الرهيبة، من منظومات أسلحة ومعَدات، بالغة التعقيد، من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. ونسأل ألا يكفي خمسة مشاهد، تكررت على مدى سبع سنوات، عانى خلالها الشعب العراقي ويلات الجوع والمرض والموت؟ ولا أحد يدري، لمصلحة مَنْ تستمر هذه اللعبة، التي تستهين بحياة الشعوب ومقدّراتها!

ومن الطبيعي، ألاّ يترك نتانياهو الفرصة تمرّ من دون أن يستغلّها لمصلحته ومصلحة إسرائيل ويوهِم الغرب أن صداماً قادرٌ على إطلاق صواريخه البيولوجية والكيماوية على تل أبيب، وأنه، أي نتانياهو، كان على حق في رفعه شعار "السلام الآمن"، و "السلام مقابل السلام". وأن الحل هو إبقاء إسرائيل أقوى من جيرانها مجتمعين. ولم يجد نتانياهو، ومن خلْفه الصهيونية العالمية، فرصة أفضل من هذه، للتعبئة النفسية إزاء العرب، وتصوير الأزمة كأنها خطر داهم ضد أمن إسرائيل. مما حدا بوليم كوهن، وزير الدفاع الأمريكي، أن يؤكد أمام زعماء اليهود الأمريكيين، أنه: "سيفعل كل ما هو ضروري للدفاع عن إسرائيل، وحماية أمنها القومي".

ولنتساءل، ألا يثير هذا التوقيت علامات استفهام عدة؟

لقد توارت خلْف هذه الأحداث قضايا رئيسية مهمة. فأين الحديث، الآن، عن مسيرة السلام المتعثرة، التي نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي في إيصالها إلى طريق مسدود؟ وأين قضايا الاستيطان في القدس والضفة الغربية والجولان؟ وأين القضايا، التي أفرزتها الاتفاقيات التركية ـ الإسرائيلية؟ وأين الحل في قضية لوكيربي، وحصار ليبيا؟ وما مصير جزر حنيش، بين اليمن وإريتريا؟ توارت هذه القضايا جميعها خلْف مقولة واحدة: "صدّام حسين يتحدّى الشرعية الدولية، ويجب أن يُؤدّب"، ولكن وسيلة تأديبه، ليس بعقابه هو، بل بضرب شعبه وتدمير بلده. وهل التقارب الإيراني ـ العربي، والتقارب العربي ـ العربي، وتحسّن المواقف المالية، ونجاح الإصلاح الاقتصادي، وتقليص العجز في ميزانيات بعض الدول العربية، لها علاقة بتوقيت إثارة هذه الأزمة؟ وهل الفضيحة، التي أَجّجَها حشدٌ من اليهود الأمريكيين، ضد الرئيس كلينتون، جاءت مصادفة، عندما هَمَّ ـ هَمَّ فقط ـ بإظهار ضِيقه وتبرّمه بتصرفات نتانياهو، أو أن لها علاقة، هي أيضاً، بما يجري حالياً؟

إن المتتبع للمَشاهد المتكررة، يرى أنه كلما فقدَ الرئيس صدّام شعبيته، لجأ إلى افتعال أزمة، ليُشعر الشعب بالخطر الخارجي، فيلتف العراقيون حوله. وتتظاهر واشنطن بالتقاطها الطُّعم، وتنساق وراءه، راضية، لأنه يحقق مصالحها في المنطقة. فإذا تراجع، وتظاهر بالإذعان لقرارات الشرعية الدولية، في آخر لحظة، اكتسب شعبية، وأظهر أن تنازله كان من أجل الشعب. وفي المقابل، لم تخسر الولايات المتحدة، بل تأكّدت سيطرتها، كقوة عظمى وحيدة. وإذا جلب الضربة إلى شعبه، اكتسب شعبية أيضاً، لأنه سيغدو رمزاً للصمود أمام الدول الكبرى، ومَنْ غيره يستطيع البقاء، على الرغم من كل ما عَصف بالعراق؟ أين جورج بوش؟ وأين تاتشر؟ وأين ميتران؟ وأين جورباتشوف؟ وأين الرموز السياسية والعسكرية الرئيسية في حرب الخليج الثانية؟ ألَمْ يختفوا جميعاً من على المسرح السياسي، لسبب أو آخر، وبقي هو، من دون أن يهتز؟ أَلاَ يدلّ ذلك، من وجهة نظره، على قوّته وقدْرته على الصمود والتصدّي؟ والسؤال، هل يوجد تناغُم (هارموني) بين افتعال الأزمات من قِبَل الرئيس صدّام، وما يدور على المسرح السياسي، الأمريكي والإسرائيلي؟ هذا التناغم الذي يحقق مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ومصالح صدّام معاً. لقد ذكرتُ، غير مرة، أنه لو أقامت الدولتان تمثالاً من ذهب لصدّام حسين، لَمَا كافأتاه المكافأة، التي يستحقها، لقاء خدماته المنظورة وغير المنظورة لهما.

وبعيداً عن الانفعال أو العواطف، فلنفكر في الهدف من توجيه هذه الضربة إلى العراق؟ لقد أعلن وليم كوهن، وزير الدفاع الأمريكي، "أن الضربة ستُلْحِق أضراراً بالغة، وستُدمّر القوات العراقية، ولكنها لن تُسقِط صَدَّاماً، أو تُجبره على الالتزام بقرارات التفتيش". إذاً، لِمَ الضربة من أساسها؟ وإذا كان العراق حقيقةً، لا يزال يمتلك أسلحة كيماوية وبيولوجية، أو إمكانية تصنيعها وتطويرها، فإن تدميرها بهذا الأسلوب، يحمل أخطار انتشارها في أجواء المنطقة كلها. وهذا، بطبيعة الحال، سوف يؤدي إلى كوارث بيئية، وخسائر رهيبة، بشرية واقتصادية، للعراق ولكل ما حوله.

إن مُعظم الدول العربية، وعدداً لا يُستهان به من دول العالم، تعارض توجيه ضربةٍ إلى العراق ، ليس حبّاً في صدّام حسين ونظامه، ولكن كراهةَ إيذاء شعبٍ، ابتُلِي بقيادةٍ، أذلّته وجعلته أضحوكة القرن العشرين، ومَثار شفقة الشعوب. والسؤال الذي يفرض نفسه، بعد ما استعرضناه، ما هي احتمالات المستقبل، الذي لا يعلمه إلاّ الله وحده؟ إن الاحتمالات عديدة، ولكن أكثر الاحتمالات توقعاً هي ثلاثة:

الأول: أن يرضخ صدّام حسين لمطالب المجتمع الدولي، ويوقف هذه المهزلة، التي تكررت على مدى سبع سنوات، ويقبل شروط التفتيش وإزالة أسلحة الدمار الشامل، من دون قيد أو شرط. وكما عوّدنا، يكون الرضوخ والإذعان في اللحظات الأخيرة، أو بعد بدء الضربة، والتأكد أن الخصم جادٌّ في ما أعلنه.

الثاني: أن تأخذه العزة بالإثم، ويستمر في عناده. وهنا، تكون الفرصة مواتية، ويكون قد أهدى الذرائع الضرورية لتأديب شعبه. وتعلن الولايات المتحدة أن الجهود الدبلوماسية قد استُنفدت. وتبدأ الضربة، مستندة إلى التفويض السابق صدوره عن مجلس الأمن، لأنها عاجزة عن استصدار قرار جديد، إذ إن الفيتو الروسي والفيتو الصيني، سيكونان لها بالمرصاد. ثم يتدخل المجتمع الدولي، لإيقاف الضربات الساحقة، وتعلن واشنطن أنها لن تكرر أخطاء "عاصفة الصحراء"، وستستمر في تأديب حاكم العراق، إلى أن يذعن ويتعهد بعدم التكرار.

الثالث: أن يتم التوصل إلى حل وسط، يحفظ ماء الوجه لصدّام حسين ويحقق مطالب المجتمع الدولي. وذلك، بموافقة صدام على الشروط الدولية، مقابل حصوله على وعد برفع العقوبات، ورفع الحصار عن العراق ، وتغيير رئيس لجنة التفتيش، ريتشارد بتلر، والتوازن في الجنسيات في لجان التفتيش، وغير ذلك من المكاسب.

إذا أمعنّا النظر في الاحتمالات الثلاثة، نجد أنها تصبّ في خانة مصلحة الرئيس العراقي نفسه. فإذا تحقق الاحتمال الأول، بعد مناشدات معظم الرؤساء، والزيارات القائمة على قدم وساق، والتوسلات من جميع الهيئات، وهي إجراءات تُرضي صدّاماً، نفسياً. أقول، إذا تحقق، فسيخرج صدّامٌ مكتسباً شعبية كبيرة في بلده، وخارجها، ومكتسباً تعاطفاً دولياً أكثر من قَبل. وفي المقابل، لم يخسر شيئاً. ولكن هل ستقبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أن تعودا، بعد هذا الحشد الهائل، من دون إجراء يضمن لهما الهيبة، ويؤكد سيادة واشنطن على العالم، من دون منازع، لا سيما أن حشدهما تمّ غير مرة في الماضي. الاحتمال قائم، ونسبة حدوثه تزيد على 50 % .

أمّا إذا تحقق الاحتمال الثاني، فستزداد شعبية صدام، أيضاً، فهو البطل الذي قال: "لا"، للإذعان للولايات المتحدة، ووقف في وجه القوة العظمى الوحيدة، وتحدّاها. وماذا عن التدمير والهلاك، اللذين سيصيبان الشعب العراقي؟ إن أمر الشعب لا يهمه، ما دام باقياً في الحكم، وما دام سالماً من الأذى. وماذا عن الولايات المتحدة؟ من المؤكد، أنها سترسخ زعامتها وقدْرتها على التصرف بمفردها. وستسعَد إسرائيل، أيما سعادة، فكل تدمير لقدرة عربية، يمثّل زيادة في ميزان القوى لمصلحتها.

أمّا إذا حدث الاحتمال الثالث، فسيكون، أيضاً، انتصاراً سياسياً لصدّام، الذي حقق ما لم يستطع تحقيقه منذ غزوه الكويت عام 1990. وسيصبح بطلاً، مُفترى عليه، في نظر شعبه المغلوب على أمره، وفي نظر بعض الشعوب المغرَّر بها، والتي لا تزال تَفتَتِن بالشعارات، وتنسى الخسائر المدمرة، التي تنتج من الأفعال غير الواعية. ولكن، هل ستقبل الولايات المتحدة الأمريكية هذا البديل، وتدَع صدّاماً يخرج مرفوع الرأس من هذه الأزمة، تطنطن أجهزة إعلامه بانتصار وهميّ وبطولة زائفة؟ هل تقبَل أن تعود أدراجها، من دون إجراء يحفظ هيبتها؟ لا أعتقد ذلك. فهذا الاحتمال، من وجهة نظري، لا يتجاوز إمكان تحقّقه نسبة 10 %.

إذاً، فحدوث أي من هذه الاحتمالات الثلاثة، سيؤدي إلى مكاسب لصدّام وللولايات المتحدة ولإسرائيل ، بنِسب متفاوتة لكلٍّ. أمّا الخسارة، فستكون من نصيب الشعب العراقي وحده، ومعه الشعوب العربية والإسلامية. وهكذا، قُدِّر لهذه الشعوب أن تدفع ثمن أخطاء قادتِها ـ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!

نأمل أن يستمع الرئيس صدّام حسين ، إلى صوت العقل والحكمة. ويستجيب لنُصْح المخلصين من زعماء الأمة، فيُجنّب شعبه المزيد من الويلات، وأرضه المزيد من الانقسامات. ويفوّت فرصة ضربه وتدمير بلده. ويدير الأزمة إدارة ناجحة، مستغلاً التأييد، العربي والدولي، وممتثلاً لقرارات مجلس الأمن. ويمكِنه، بعد ذلك، تحقيق عدة مكاسب للشعب العراقي المطحون. هذا ما نأمله، ونرجو تحققه في الأيام القادمة.

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة