الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الخامســة
بعنوان

العنف ... وقوانين الطبيعـــــة

نُشرت في جريدة "الحياة"
الإثنين، 8/11/1417هـ الموافق 17/3/1997


بسم الله الرحمن الرحيم

أطلق جنديٌ أردنيٌ النارَ على طالبات إسرائيليات، في منطقة الباقورة، يوم الخميس الماضي، مما أدى إلى مقتل سبع منهن.

خبرٌ سيئ، لا يؤيده أحدٌ، ولا يستحسنه خُلق، بل هو موضع استنكارٍ وإدانةٍ من جميع الناس، القريب منهم والبعيد.

هذا الحادث دفعني إلى أن أعطي الأولويةَ له  في الكتابة، على مقال يعالج "اتفاقية الخليــــل" كنت ألزمت نفسي بكتابته في مقالي الذي نُشِر بعنوان "هل الغضب وحده يكفي؟". أحدث الحادث دوياً عالمياً، فسمعنا بيانات إدانة، وصيحات استنكار، وقرارات شجب، وزيارات قُطعت، ولقـاءات أُجّلت، واعتذارات رسمية، وبرقيات تعازٍ حارة من كل حدب وصوب.

وبادئ ذي بدء، أعلن أنني أنبذ الجبن قولاً أو فعلاً. فمن يستخدم سلاحاً لقتل الأبرياء، فهو جبان في جميع الشرائع السماوية. فأي شجاعة في أن يطلق شخصٌ النار على من لا ذنب له سوى مصادفة الوجود لحظة الإطلاق؟ هل هذه رجولة؟ هل هذا جهاد؟ هل يحض أي دين أو خُلق على ذلك؟ إن العنفَ جبنٌ، ومن يتحصن خلف سلاح أو ترسانة أسلحة ـ فرداً أو منظمة أو دولة ـ يقتل العزل من المدنيين فهو جبان، لا فرق في ذلك بين جندي أردني يقتل سبع تلميذات، وبين إسرائيلي يقتل (30) مصلياً ساجدين بين يدي الله في شهر الصوم الكريم رمضان، فجر الخامس والعشرين من فبراير عام 1994، وبين مستوطن يركل بقدمه طفلاً فلسطينياً بريئاً يبلغ العاشرة من عمره حتى الموت في نهاية أكتوبر الماضي، وبين جندي إسرائيلي يُطلق النار عشوائياً ضد المدنيين العزّل في سوق القصبة في الخليل في استهلال عام 1997.

أعود مرة أخرى إلى الحادث الذي أحدث هذا الدوي العالمي، وأتساءل لِـمَ لَمْ يحدث مثل هذا الدوي منذ عام تقريباً، عندما نفّذت إسرائيل عملية "عناقيد الغضب" التي كانت حصيلتها قتل أكثر من مائتي مدني لبناني، وجرح أكثر من ثلاثمائة، وتشريد أربعمائة ألف نزحوا عن ديارهم من الجنوب اللبناني؟! تلك "العناقيد" التي توّجتها إسرائيل بمذبحة "قانا" التي قُتل فيها، في طرفة عين، مائة واثنان أكثرهم من النساء والأطفال الأبرياء. وقتئذٍ، لم يشعر أحد في إسرائيل بالندم، ولم يقدم أحدٌ اعتذاراً لأحدٍ، ولم يُرسلْ أحدٌ برقيات عزاء أو مواساة، بل حدث العكس تماماً، إذ اعتبرت الدوائر الرسمية وغير الرسمية وفئات الشعب الإسرائيلي كلها الحدث أمراً طبيعياً لا يستدعي تنويهاً أو أسفاً. وسأكتفي في هذا الصدد بما نشرته مجلة "كول مائير" الإسرائيلية ـ في ذاك الوقت ـ إذ قالت: إن الجنود الإسرائيليين أبلغوها "أنهم لا يشعرون بأي ندم أو أسف على سقوط هذا العدد الكبير من القتلى المدنيين العزل"، ونقلت عن رقيب الوحدة الإسرائيلية قوله: "إن القتلى مجرد حفنة من العرب"، وعن جندي آخر قوله: "إن قائد وحدة المدفعية عقد اجتماعاً بعد القصف مع جنود وحدته وأبلغهم بالحرف الواحد: "إن هؤلاء النفايات البشرية يطلقون عليكم الصواريخ فماذا تفعلون؟ إنكم تعلمون أن هناك ملايين كثيرة أخرى من العرب"، واستخدم أحد الجنود الإسرائيليين اللفظ العبري (عرابوشيم)". وهو تعبير عنصري يزدري العرب.

كما أنقل مقتطفات مما كتبه الصحافي الإسرائيلي، أرييه شافيت، في مقالٍ نشرته له  جريدة "هأرتس" في عددها الأسبوعي عقب توقف حملة "عناقيد الغضب": "لقد قتلنا أمّاً في النبطية وأطفالها السبعة، الذين دفنوا معها تحت الأنقاض، قتلنا الطفلة زينة ابنة العاشرة من العمر وحنان ابنة الثالثة ومريم ابنة الشهرين، لأننا لا نهتم بقتلهم، والحرص على حياتهم ليس من الأمور التي نوليها الأهمية أو الأولوية. لقد قتلناهم لأن الفرق شاسع بين الاهتمام الضخم بحياتنا، وهو اهتمام يصل إلى حدّ التقديس، وبين عدم الاهتمام بأرواحهم؛ لأننا مقتنعون إلى درجة لا تقبل الشك أن حياة الآخرين ليس لها أي قيمة لدينا".

إذا رجعنا إلى تصريحات الإسرائيليين عقب حادثة الحافلة وجدناها تنمّ على الحزن والغضب، والتوعد والوعيد، والإصرار على تنفيذ خطط الاستيطان والتهديد بتجميد عملية إعادة الانتشار. هنا، نتوقف لنسألهم: "أليس ما يحدث هو ردَّ فعلٍ  طبيعياً لما تفعلونه؟ ألا تعلمون أن لكل فعل ردَّ فعلٍ مساوياً له في المقدار ومضاداً له في الاتجاه، طبقاً لقوانيـــن الطبيعة وقوانين الحركة لنيوتن؟". ويا للعجب! إن كل رد فعل عربي ـ أقام له الإسرائيليون الدنيا ولم يقعدوها ـ كان مخالفاً تماماً لهذه القوانين، فقد يكون مضاداً في الاتجاه، ولكنه لا يساويه على الإطلاق في المقدار. فأين هذا الحادث من أعمال العنف أو الإرهاب الذي مارسته إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين؟ وأين هذا الحادث، الذي أدينه وأستنكره، من مجزرة الأقصى التي قُـتل فيها عشرون فلسطينياً عام 1990، ومجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 التي قُتل فيها (30) فلسطينياً وجُـرح أكثر من مائتين؟ وأين كل هذا من قتلى مجزرة "عناقيد الغضب" وجرحاها، وشهداء فتح النفق الاثنين والسبعين؟ إنني أُذَكّر فقط بعنف التاريخ القريب، ولن أفتح جراح الماضي البعيد. وأؤكد أنني لست معادياً للسامية، ولكني، في الوقت نفسه، أؤكد أنني ضد الظلم بجميع صوره، وضد العنف بجميع أشكاله. وإذا كانت دماؤهم زكية وعزيزة عليهم، فإن دماءنا العربية زكية ولا تهون علينا.

وما الحل إذاً؟ الحل ببساطة شديدة واضح كل الوضوح: أن يتوقف الظلم حتى يتوقف العنف المضاد، وأن تتوقف خطط الاستيطان حتى يتوقف الشعور بالإحباط، وأن تتوقف سياسات "غطرسة القوة" حتى يتوقف الشعور باليأس، وأن يُعترف بالسلام العادل حتى يتحقق السلام الآمن، وأن يُمنح الفلسطينيون حقهم في الحياة حتى لا يصبح الموت أمامهم أفضل من الحياة.

لقد ذكرت في محاضرة ألقيتها في "جامعة العلاقات الدولية" التابعة لوزارة الخارجية الروسية في سبتمبر الماضي ما نصه: "إن كانت إسرائيل تريد حدوداً آمنة مع لبنان ، فإن تحقيق هذا الأمن سيتم  فقط بالانسحاب من الجنوب اللبناني. وإن كانت تريد حدوداً آمنة مع سورية، فعليها الانسحاب من الجولان. وإذا كانت تريد أماناً مع الفلسطينيين، فعليها معاونتهم على العيش حياة كريمة، وقبول إقامتهم لدولتهم على البقية الباقية من أراضيهم المغتصبة".

هل هناك حل آخر؟

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة