الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الثانيــــة
بعنوان

ذكريات وتساؤلات وآمال في الذكرى الخامسة

نُشرت في جريدة "الأنبــاء" الكويتية
الأحد 7/10/1416هـ الموافق 25/02/1996م


بسم الله الرحمن الرحيم

مرّت خمس سنوات على أهم بيان تشرفت بإعلانه، وأغلى برقيات تهنئة تشرفت برفعها في حياتي. في السابع والعشرين من شهر فبراير عام 1991 كان الإعلان بتحرير مدينة الكويت من أيدي الغاصب المعتدي. وفي اليوم نفسه رفعت برقيات تهنئة إلى ولاة الأمور في البلدين الشقيقين: المملكة العربية السعودية ودولة الكويت برقيات تهنئة لأزف إليهم النبأ السعيد، الذي بُذل في تحقيقه النفس والنفيس، نبأ عودة الكويت حرة مستقلة، انتزعناها بفضل ومنة من الله ثم بفضل مساعدة الأشقاء والأصدقاء، من أنياب غاصبٍ لا يحترم حقاً ولا يرعى حَداً. عادت البسمة إلى الشفاه والطمأنينة إلى النفوس.

أمّا الثامن والعشرون من فبراير، فهو يومٌ لا يُنسى، يوم أن توجّهتُ إلى الكويت متفقداً القوات المشتركة التي كان لها شرف التحرير، فشاهدت الفرح على وجوه الأطفال، والدموع في عيون النساء والفخر يملأ صدور رجال المقاومة الكويتية الأشدّاء الذين صمدوا وقاتلوا، وكانوا نعم العون لنا. وعلى مدى البصر، كانت الآبار تحترق. عملٌ جنوني أقدمت عليه أيادي الحقد والكراهية، هذه الأيادي التي أذاقت شعبها الأمرّيْن وجلبت عليه الذل والهزيمة، ونسيت أن هناك من لا يغفل ولا ينام، وأن الحساب آت لا مفر منه.

في هذا اليوم يمر شريط الذكريات أمامي، رضيت أم أبيت، ذكريات تتميز تارة بالمرارة والحسرة، وتارة بالإعجاب والفخر، وتارة بالصبر والجلَد، وتارة أخرى بالفرحة والحمد.

ذكريات بالمرارة والحسرة، ونحن نرى في الثاني من أغسطس عام 1990 مغامرة مجنونة لابتلاع دولة، وتشريد شعب، ومحو اسم. طعنة جديدة في جسد أمة أثخنتها الجراح. ذكريات مريرة ونحن نرى الثروة التي أنعمها الله علينا تُسكب في مياه الخليج وتُحرق الآبار، أي تفكير شيطاني قاد المعتدي إلى هذه السقطات؟!

ألم وحسرة لحرب فُرضت علينا ولم نسعَ إليها. حربٌ ضد قوات مسلمة لدولة شقيقة، كنّا نظنها حتى الأمس القريب قوة تُضاف إلى قوتنا، وسنداً يقوي من عزيمتنا. فإذا بها تنقلب على من ساعدها، تهدد وتتوعد، تشرد وتغتصب، تخلف وراءها الأيتام والأرامل. ثم نشاهد عشرات الآلاف منهم في الأسر بين أيدينا في حالة يُرثى لها، مستضعفين مسترحمين. جلّهم من الشباب الذين تطفح قصصهم بالمرارة والأسى. وأخيراً، ألم وحسرة لأنه لا يزال عدد من الإخوة الكويتيين قيد الأسر والاعتقال بين أيدي طاغية لم يتعلم ولم يستفد.

أما ذكريات الإعجاب والفخر، فالإعجاب بقرار مولاي خادم الحرمين الشريفين القائد الأعلى للقوات المسلحة السعودية استدعاء القوات الأمريكية والقوات الأخرى الشقيقة والصديقة، هذا القرار الذي سُمي بحق قراراً تاريخياً، بل قراراً منطقياً شجاعاً، فلم تخِفه المحاذير والشعارات الجوفاء التي كان يرددها أدعياء القومية العربية، ولم تثنه مقولة القائلين إن الاستنجاد بالقوات الغربية سوف يُشعل المنطقة بأسرها. وتساءلت وقتئذٍ هل تعني القومية العربية أن نسكت عن الظلم وندير ظهورنا للحق ونرضخ لإرادة المعتدي؟

الإعجاب بأمير دولة الكويت وحكومتها وشعبها. أمير واجه الصعاب والمحن ولم ينحنِ، وحكومة صمدت وراءه ولم تتردد، وشعب أبي لم يركع ولم يرضَ بالذّل والهوان.

الإعجاب بقادة دول مجلس التعاون الخليجي وبالرئيس محمد حسني مبارك وبالرئيس حافظ الأسد وبجلالة الملك الحسن الثاني ، قادة رجال أعلنوا كلمة الحق، ووقفوا وقفة رجل واحد، دفاعاً عن المملكة واستعداداً لتحرير الكويت . الإعجاب بالدول التي أرسلت وحدات من قواتها المسلحة، كل دولة حسب طاقتها، فمنها ما أرسل الآلاف، ومنها ما أرسل العشرات، وكانت جميعها عندنا متساوية الاحترام والتقدير.

وكان الفخر والشرف لي بقيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات، قوات مسلحة من أكثر من 24 دولة توافرت لها القوة والخبرة القتالية، والتصميم والإرادة. والفخر بمن سالت دماؤهم في سبيل مساندة الحق وردع الباطل، في سبيل نُصرة العدل وفرض السلام.

أما ذكريات الصبر والجلَد، فهي حافلة بالكثير، من ثقل المسؤولية التي أُلقيت على عاتقنا، والمصاعب التي واجهتنا، والمهام الجسيمة المطلوب منا إنجازها، مسؤولية إنشاء قيادة للقوات المشتركة ذات كفاءة وفاعلية، ووضع خطة دفاعية محكمة لإيقاف المعتدي وردعه، ورفع مستوى الكفاءة القتالية للقوات والتعامل مع القوات الشقيقة والصديقة التي تدفقت إلى المملكة، وحماية عقيدتنا وسيادتنا وتقاليدنا من أن يُستهان بها أو تُنتهك حرمتها، ثم التدريب الشاق المتواصل على العمليات الهجومية لخوض حرب التحرير، ثم الحرب الجوية والحرب البرية التي حققت الآمال، ووضعت الأمور في نصابها.

أما ذكريات الفرحة، والحمد لله، فهي الفرحة بتحرير دولة عربية شقيقة، وعودة شعب إلى كيانه، والحق إلى أصحابه. والحمد لله، الحمد لله وحده، الذي هدانا ويسّـر لنا، ووفقنا ونصرنا. نصرٌ عزيزٌ من عليٍّ قدير.

وفي كل ذكرى تمرّ أتساءل: هل تعلّمنا وعلّمنا؟ هل غيّرنا وتغيّرنا؟ هل استوعبنا وخططنا؟ إن أشد ما أخشاه أن تمرّ الذكرى الخامسة علينا كما مرّت سابقاتها، مقالات واحتفالات دون أن نأخذ منها العبرة والعظة، إذ يجب ألاّ ننظر إلى الغزو العراقي كأنموذج للتهديدات، التي يمكن أن نواجهها مستقبلاً، وألاّ ننظر إلى حرب تحرير الكويت كأنموذج لحل الأزمات، التي قد نتعرض لها. كان لتلك الأزمة، والحرب التي قامت على أثرها، ظروف خاصة، وتكرارها في المستقبل المنظور أمر بعيد الاحتمال.

ويجب ألا ننسى في غمرة فرحتنا بالعيد الخامس لتحرير الكويت أننا في عالم يموج بالأحقاد والفتن، غابة يأكل فيها القوي الضعيف، ولا سبيل إلى تحقيق أفضل الأوضاع إلا بالاستعداد لأسوأ الاحتمالات. والاستعداد بالقوة، فالقوة هي الدرع التي تحمي الحق وتصون الكرامة وتحقق الآمال.

آمل أن أجد في الذكرى القادمة، بإذن الله، إجابة عن تساؤلاتي، نعم: تعلمنا وعلمنا، نعم غيرنا وتغيرنا، نعم استوعبنا وخططنا، ثم نفذنا وبفضل من الله نجحنا. فالمولى ـ عزّ وجلّ ـ يقول في كتابه الكريم: سورة الرعد، الآية 11.إن الله لا يغيـر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

أسمى آيات التهنئة أرفعها إلى مقام سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير البلاد، وإلى سمو ولي العهد الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح وإلى الشعب الكويتي الشقيق، في هذه المناسبة العزيزة على نفوسنا جميعاً. وأدعو الله أن يرفرف الأمن والأمان والرقي والازدهار على دولة الكويت الشقيقة وعلى الأمة العربية والإسلامية.

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة