الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

المقالة الثالثــــة
بعنوان

حيـاةٌ  أو لا حيـاة

نُشرت في جريدة "الحياة"
الأربعاء، 6/9/1417هـ الموافق 15/1/1997


بسم الله الرحمن الرحيم

كنا نأمل أن يكون العام الجديد عام أمن وأمان، عام سلام وتقدم، عام ازدهار ورفاهية. عاماً تحقق فيه كل دولة أهدافها المشروعة، وكل شعب آماله المعقودة. عاماً يسود فيه العدل والحق. عاماً يتمسك فيه كلٌّ بعقيدته، في حرية من دون خوف، ويجهر برأيه في ثبات من دون إرهاب، شريطة ألاّ يؤذي مشاعر الآخرين تلميحاً أو تصريحاً. ولكن، للأسف، خاب أملنا في اليوم الثاني من بداية العام عندما تلقى مكتب جريدة "الحياة" في واشنطن رسائل مفخخة. والحمد لله، اكتشفت مبكراً، ولم تحدث خسائر. تساءلت يومها: هل هذه هي البداية، أو النهاية؟ وهل هو إرهاب للفكر، أو حجر على الرأي؟ وكان أملي أن تكون تلك رسائل قد ضلت طريقها، لذلك لم أعلّق عليها كحدث. ولكن لم تمرّ عشرة أيام أخرى من العام، حتى تلقى مكتب "الحياة" في لندن رسائل مفخخة جديدة، ولسوء الحظ، نتج من انفجار إحداها إصابة موظف أمن ليس له في السياسة ناقة ولا جمل، وبعيد كل البعد عن اتجاهات الجريدة وسياستها. ولم تمض سوى ساعات قليلة أخرى، حتى تم العثور على رسائل أخرى مفخخة في مكتب "الحياة" في مبنى الأمم المتحدة في >نيويورك .هنا، أصبح التعليق على هذه الأحداث لازماً، وتحليلها بموضوعية واجباً.

بادئ ذي بدء، فإن لكل عمل هدف ورسالة، هدف مطلوب تحقيقه، ورسالة مطلوب تبليغها. والهدف والرسالة يترابطان زماناً ومكاناً. ومن هذا المنطلق بدأ تحليلنا. طلبت البحث والمشورة. البحث عمّن وراء هذه الرسائل، والمشورة في ما يجب عمله. وانهالت الآراء يميناً ويساراً، تخمّن وتتوقع وتقدم البدائل.

فمن قائل إن وراء الرسائل إيران فقد دأبت "الحياة" على مساندة الخط العربي بصفة عامة، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بصفة خاصة، في مطالبها المشروعة، سواء في شأن الجزر الإماراتية الثلاث، موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، أو في التصدي لمحاولات تصدير نموذج الثورة الإيرانية إلى الدول القريبة أو البعيدة. قلت: اتقوا الله في تحليلاتكم، أَكُلُّ عمل إرهابي نلصقه بإيران؟ إن ديننا الحنيف يمنع توزيع الاتهامات جزافاً، من دون بيِّنة. وإن إيران دولة مسلمـــــة جارة لنا، بيننا من نقاط الاتفاق أكثر من نقاط الاختلاف. وعندما نتحاور معها بالكلمات، لا نتوقع منها الرد بالمتفجرات. فذاك أسلوب عفاه الزمن، ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين، ولن يحقق مثل هذا الأسلوب أهدافه، بل سيزيد المُسْتهدفَ عزيمة وإصراراً. وإن ما نقوله نحن، تقوله الجرائد الأخرى، ونثبته بالوقائع والأحداث في موضوعية وأمانة. وصفحاتنا مفتوحة للرأي المؤيد ، مرحبة بالرأي المعارض. كما أنني أشير دائماً في محاضراتي إلى خطأ سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق وأشدد على ضرورة أن ينجح المجتمع الدولي في إعادتهما إلى الحظيرة الدولية، بدلاً من احتوائهما وعزلهما. فلا أحد ينكر أن إيران والعراق ركيزتان أساسيتان في المنطقة، ولا يتحقق استقرارٌ ـ كامل أو تام ـ  من دونهما.

قال رأي ثانٍ، إن وراءها العراق . فاستفسرت عن سبب الاتهام. فقيل بسبب مواقف "الحياة" من أزمة احتلال دولة الكويت وحرب تحريرها، ومواقفها تجاه النظام العراقي الذي جلب على دولة، كانت من أغنى الدول العربية وأقواها، كل أنواع الخراب والدمار، والذل والهوان. أوضحت للقائل، أن ما حدث مرّ عليه الآن أكثر من خمس سنوات، وأن العالم كله يعرف أن هذه الحرب فُرضت علينا، ولم نسع إليها، وأن ما حققناه من نشوة الانتصار كان ممزوجاً بمرارة الأسى، لأنه انتصار على دولة عربية شقيقة، أموالها أموالنا، وسلاحها سلاحنا، وشعبها شعبنا. وأن موقفنا من النظام العراقي لم يتغير حتى الآن، لأن سياسته لم تضر شعبه فقط، بل أضرت بالأمة العربية والإسلامية، وبالأمن الدولي والسلام العالمي. هذه السياسة أضاعت على العرب قوة كنا في أمسِّ الحاجة إليها في ميزاننا. كما أن "الحياة" عندما تناقش أو تحلل ما يقوم به النظام العراقي، فإنها تفعل ذلك بموضوعية، من دون تجريح لأشخاص، أو إشارة إلى أحد بالهمز أو اللمز. وأن اهتمامنا لَيَنْصب، أساساً، على ضرورة إيجاد مخرج لرفع المعاناة التي يقاسيها شعب العراق الشقيق، من دون ذنب جناه. ولَـكَمْ أوضحت ذلك في مناسبات عدة.

قال رأي ثالث، من المؤكد أن وراء هذه الرسائل "الموساد"، جهاز الاستخبارات الإسرائيلي. فإسرائيل وحدها تستفيد من كل تَرَدٍّ للأوضاع العربية، من طريق انفجار هنا وتفجير هناك. وسألت: ولِمَ ضد جريدة "الحياة" وحدها؟ قيل، لأنها دأبت على نشر الحقائق، وكشف الأكاذيب، وفضح المؤامرات، وعرض كل ما يحدث على أرض الواقع من تسويف وتهرب من تنفيذ الاتفاقات، وإرهاب للفلسطينيين، وزيادة ما يعانونه من حصار وتجويع، وقتل وتشريد، وتوسع على حساب أصحاب الأرض الأصليين. وهذا ما يجعل لـ "الحياة" خطّاً واضحاً تجاه هذه المشكلة، وأنكم تتبنون في محاضراتكم الخط نفسه. تعجبت وتساءلت، وما المطلوب منّا حتى نُرضي هؤلاء الإسرائيليين؟ هل نلوي الحقائق؟ وهل نقف إلى جانب المحتل؟ وهل نُساند سياسة الاستيطان؟ وهل نسكت عن الحق فنصبح كالشيطان الأخرس؟ إننا لم نذكر في جريدتنا سوى ما يحدث من مآسٍ، ونتنبأ بما سيجري في المستقبل في ظل هاجس الأمن الإسرائيلي، الذي يعني القوة والتوسع والاستيطان والتفوق والهيمنة. وكنت قد ذكرت في محاضرتي التي ألقيتها في "جامعة العلاقات الدولية" التابعة لوزارة الخارجية الروسية  ما نصه: "فإن كانت إسرائيل حقاً، تريد أن تُقبل عضواً في مجموعة دول الشرق الأوسط، فإنها لن تستطيع تحقيق ذلك من خلال سعيها الدائم نحو الهيمنة، وفرض أهدافها التوسعية على باقي دول المنطقة، أو مراعاة مصالحها على حساب مصالح باقي الدول. وإن كانت إسرائيل تريد حدوداً آمنة مع لبنان فإن تحقيق هذا الأمن سيتم فقط بالانسحاب من لبنان وإن كانت تريد حدوداً آمنة مع سورية، فعليها الانسحاب من الجولان وإن كانت تريد أماناً مع الفلسطينيين، فعليها معاونتهم على العيش حياة كريمة، وقبول إقامتهم لدولتهم على البقية الباقية من أراضيهم المغتصبة". وإن كانت إسرائيل تظن بإرسالها مثل هذه الرسائل المفخخة أنها تثنينا عن خط الجهاد بالكلمة، فتكون واهمة، ويكون الصواب قد جانبها.

قال رأي رابع، قد يكون وراءها مجموعات إرهابية معارضة. لماذا؟ لأن سياسة "الحياة" تهاجم الإرهاب في كل صوره وأشكاله، وتنادي بضرورة التصدي له بحزم من دون هوادة، وأنها تعتبر أن التطرف أياً كان مصدره، وفرض الرأي على الآخرين بقوة السلاح، وتهديد حياة الناس وأعراضهم وأملاكهم تحت أي دعوى، هو إرهاب يجب على كل عاقل مقاومته، لأنه لا يعلم متى سيحل الدور عليه. فإن كان هذا هو سبب إرسال الرسائل المفخخة، فنحن نرحب بذلك ونفخر به. فالإرهاب لا تقرّه شريعة، وتأباه الأديان السماوية، وتنفرُ منه القيم الإنسانية. وإننا، ومعنا دول العالم أجمع وشعوبها، ضد الإرهاب في كل صوره، ضد الإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتطرفة في كل دولة عربية وغير عربية، وضد الإرهاب الذي تُمارسه إسرائيل ضد شعب غُلب على أمره، وسُلبت أرضه، وهُدد في قوْته وأمْنه، إننا ضد الإرهاب في كل زمان ومكان، ضده في كل صوره وأشكاله.

قال رأي خامس: إذاً، فهذه الرسائل موجهة إلى هيئة تحرير "الحياة" ورئيسها. لماذا؟ لأنهم يتّبعون منهجاً واضحاً، وخطاً محدداً، لا يحيدون عنهما. سياستهم لا تميل ولا تنحاز، يذكرون الحقائق، ويحترمون عقل القارئ وذكاءه. وتعَد الجريدة من الجرائد المستقلة، لا تقبل ما يُفرض عليها، ولا تتنازل عن مبادئها، ولا تقبل هبة أو معونة مالية من أحدٍ، أيّاً كان. تنتقد بأسلوب بنّاء، وتحاور بكلمات مهذبة، وتحلل بطريقة علمية. فإذا ادّعى بعض الناس أنها منحازة إلى المملكة العربية السعودية، اكتشفوا أن عدد مرات منعها هناك أكثر من عدد مرات منعها في أي دولة. وإذا قال آخرون إنها موالية لعدد من العواصم العربية، فوجئوا بالاعتراض عليها من جانب هذه العواصم، ومكافأتها بالمنع من عبور الحدود أياماً وأسابيع. إضافة إلى ذلك، فإن هيئة التحرير، رئيساً وأعضاء، ينفّذون ما يؤمنون به، ويفعلون ما اتفقنا عليه، منذ اليوم الأول الذي أخذت فيه على عاتقي مسؤولية إعادة إصدارها عام 1988. وقد أكدت لرئيس تحريرها، الأستاذ جهاد الخازن، في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1990، الخطوط العريضة لسياستنا، حتى تظل "الحياة" تحظى بالاستقلالية والمصداقية في بحر الأحداث المتلاطم الأمواج. إنني كما أعلنت، غير مرة، لا أتدخل في تحرير الجريدة، ولكني في الوقت نفسه لا أتنصل من مسؤولية تحديد سياستها وإستراتيجيتها وأهدافها. وإنني أتحمل المسؤولية، كل المسؤولية، في كل ما ينتج من تبعات تنفيذ ما وجّهت به، وما حددته من خطوط عريضة.

إذاً، ما الحل؟ وما الخطة في المستقبل؟ وكيف نواجه هذا الإرهاب الفكري؟  

أولاً: يجب أن يكون توكلنا على الله وحده، فلن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، ولئن اجتمعت الأمة على أن يضرونا بشيء فلن يضرونا إلاّ بشيء قد كتبه الله علينا.

ثانياً: إن الإرهاب، لا يدل على شجاعة أو شهامة، أو رجولة أو جسارة. فإرسال رسالة مفخخة قد تصيب بريئاً قبل أن تصيب مستهدفاً، عمل يدل على الخسة والنذالة، والضعف والجبن. ولن يثنينا إرهاب عن رسالتنا، فالصحافة من وجهة نظري، فن وعلم ورسالة.

ثالثاً: إذا كان اهتمامنا ازداد في الأيام السابقة بتأمين سلامة العاملين في جريدة "الحياة" ومجلة "الوسط"، فإن أمن العاملين وسلامتهم سيصبح هاجسي الأول ومناط اهتمامي. فرعايتهم عليّ واجبة، وأمنهم عليّ مفروض.

رابعاً: أتذكر قول الله عز وجل: سورة الأنفال، الآية 30.ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، أرادوا بنا شراً، فأثابنا الله خيراً. ازدادت مبيعاتنا، وغمرنا عطف الدول والأفراد وتعاطفهم، وانهالت علينا رسائل المحبة والتآزر، وشهد بمصداقيتنا الأعداء قبل الأصدقاء.

خامساً: لا نتهم أحداً إلاّ عن بيّنة، والاحتمالات الواردة كلها قد تكون غير مبررة التبرير الكافي، ولكنها ليست مستبعدة، وعلينا الحيطة والحذر، وتوقع الأسوأ.

سادساً: سنواجه الإرهاب الفكري بمزيد من حرية الرأي، وبمزيد من اتّباع الحق وكشف الباطل، وبمزيد من فضح الإرهاب، دولاً كانت أو منظمات أو أفراداً، وبمزيد من احترام الرأي الآخر، للذين يتحاورون بالكلمات والحجج وليس بالمتفجرات والسلاح، وبمزيد من الجهد إرضاءً لقرائنا، الذين يساندونا في السراء والضراء.

سابعاً: أختتم كلمتي هذه بقول المولى عز وجل: سورة محمد، الآية 7.إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم

----------------



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة